تفسير قوله تعالى (وكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون)
تفسير آية (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)
سبحان من جعل في ظلمة الليل نوراً يُنير حلكة القلوب المعتمة، نوراً يبزغ كطلوع الشمس، ولكنها شمس القلب، تطلع في جوف الليل، في صدور العابدين، بين سطور الساجدين، فتبهى طلعة الوجه كالقمر، قمراً لكنه يبزغ عند طلوع الصبح، للقانتين الخاشعين على صلاة الليل محافظين، الذين آثروا ذلك النور على النوم، فقال-تعالى-: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ).
هجوع المتقين
هجوع قليلٌ، والتهجاع النومة الخفيفة،فأكثر الليل إحياء لنيل الحياة في الحياة، فالعيش إنما يطيب مع الله، فكانوا قليلو النوم كثيرو القيام طمعاً لنيل رضا الله ، وهرباً من أسر الدنيا لجنة الدنيا، حيث تسمو فيها النفوس إلى درجة الملائكية، وتباهي الملائكة نزول الله عز وجل إلى سماء الدنيا، فيخر العُبَّاد سجّداً تحية لخالقهم، فتظلهم سحابة حب الله، وتغشاهم السعادة الغامرة.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فيَقولُ: مَن يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ له، مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له).
صفات المتقين
المتقين هم العابدين السائحين القانتين الذين يجاهدون أنفسهم لنيل رضا الله -عز وجل-، وقد وصفهم الله في هذه الآية الكريمة أنهم كانوا قبل فرض الفرائض محسنين، وكانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ في الجنَّةِ لغُرفةً قد يُرى ظاهرُها من باطنِها، وباطنُها من ظاهرِها، أعدَّها اللهُ لمن أطعمَ الطَّعامَ، وألينَ الكلامَ، وتابعَ الصِّيامَ، وصلَّى باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ)،فهم يكابدون الليل فلا ينامون من الليل إلّا أقلّه، ويظلون إلى السحر يتعبدون بالاستغفار.
قيام الليل مدرسة المخلصين
صلاة الليل سر السعادة، وهي مدرسة المخلصين، ومضمار السابقين لعباد الله المتقين أثرها كالسحر تغسل درن القلب وكدره، وتصفيه من آثار الحقد وسخطه.
والسرّ في القيام أن العبد يمتنع عن ملذات الدنيا من النوم وراحة البدن؛ ليعبد لله عزوجل فينال رضاه، فإن من آثر وكابد الليل وظلّ مستيقظا قانتاً على العبادة يكسوه الله لباس التقوى فيغمره بحسن الخلق ليستعين بأثر القيام على وحشة الدنيا، فإذا نزلت به نازلة تراه يتقبلها بسعة صدر.
وإنما أرشد الله عباده لهذه العبادة العظيمة، لعظمة الثواب فيها، وللسر في كينونتها في تحصيل الفرج، ولاستقامة القلب وثباته على حب الله، فيزيد إقباله على الطاعات، ويستوحش المعاصي كأن بينه وبينها حجاب، فلا يقبل عليها إلا من امتلأ قلبه بالإيمان، فأهل المعصية تحرمهم معاصيهم وتثقل عليهم التهجد ، إلا من صارع وبكى ذليلاً لله عسى أن يغفر له.
"روى عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَزْدِ أَنَّهُ قَالَ: "كُنْتُ لَا أَنَامُ اللَّيْلَ فَنِمْتُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَنَا بِشَابَّيْنِ أَحْسَنَ مَا رَأَيْتُ وَمَعَهُمَا حُلَلٌ، فَوَقَفَا عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ وَكَسَوَاهُ حُلَّةً، ثُمَّ انْتَهَيَا إِلَى النِّيَامِ فَلَمْ يَكْسُوَاهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمَا: اكْسُوَانِي مِنْ حللكما هذا، فَقَالَا لِي: إِنَّهَا لَيْسَتْ حُلَّةَ لِبَاسٍ إِنَّمَا هِيَ رِضْوَانُ اللَهِ يَحُلُّ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ".