تفسير سورة النور لابن كثير
تفسير سورة النور لابن كثير
نماذج من تفسيره المقطع الأول
تتحدث الآيات (1-34) من السورة عن قضايا متعلقة بحدود العلاقة بين الجنسين؛ كالعقوبات الناظمة لمخالفة تلك الحدود: كالزنا والقذف واللعان، والتدابير الأخلاقية التي تقي من الوقوع في مخالفتها: ك آداب الاستئذان وغض البصر والحثِّ على الزواج، وقد تناول ابن كثير الحديث عن أبرزها في تفسيره، وبخاصة من جهة أثرها على المجتمع بحسب ما يأتي:
- (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
يعني يشاهد تطبيق حد الزنا جماعة من المؤمنين، رغم أنَّ المتوقع أن يشاهد الفاسقين العملية ليخافوا؛ والحكمة من ذلك أنَّ ذلك يكون أبلغ في زجرهما، فإنَّ في ذلك تقريعاً وتوبيخاً وفضيحة إذا كان الناس حضوراً، ورأى بعض العلماء أنَّ العلة ليست فضيحتهم، وإنما لسبب يُظهر عِظمة التشريع وهي أنَّ المسلم الملتزم يحضر التنفيذ "ليدعي الله -تعالى- لهما بالتوبة والرحمة".
- (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)
ليس شرط الذنب العظيم أن يعتقد مرتكبه أنَّه كبيرة، ولا يُتصوَّر أن يقول الخائضون في شأن أم المؤمنين ما يقولون من إفك ويحسبون ذلك يسيراً، ولو لم تكن زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان هيناً، فكيف وهي زوجة النبي الأمي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟
- (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
هذا وعيد من الله للذين يرمون المحصنات وأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وقد أجمع العلماء قاطبة على أنَّ من سبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به، فإنَّه كافر؛ لأنَّه مُعاند للقرآن، وهذا القول يؤيده ما ذهب إليه الإمام مالك: "مَن رماها فقد خالف فالقرآن".
نماذج من تفسيره المقطع الثاني
تتحدث الآيات (35-57) من السورة عن قضايا متعلقة ببيان آثار نور الله -تعالى- في الكون، وموقف الذين كفروا به رغم وضوحها، في مقابل موقف المؤمنين الذين آمنوا بها فاستحقوا الوعد بالنصر والتمكين، ومما قاله ابن كثير في تفسيره لتلك القضايا ما سيأتي بيانه:
- (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ)
المشكاة هي الكوَّة داخل الجدار التي يوضَع فيها المصباح؛ فتضيء، والمشبَّه نوره بالمشكاة: إمَّا أنَّه عائد إلى الله -تعالى- أي: مَثلُ هداية الله وكلامه في قلب المؤمن كمشكاة، أو: الضمير عائد إلى المؤمن، وهذا الذي دلَّ عليه السياق.
وتقديره: مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة، فشبَّه قلب المؤمن في صفاء نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت المشرق الذي لا كدر فيه.
- (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)
هؤلاء المنافقون إذا كان الحكم في صالحهم جاءوا سامعين مطيعين، ومن مفهوم المخالفة: إذا كان الحكم عليهم أعرضوا وأحبوا أن يتحاكموا إلى غير النبي؛ ليروّجوا باطلهم، وبناءً على ذلك: فإنَّ إذعانهم الأول لم يكن عن اعتقاد منهم بأنَّ حكم النبي هو الحق؛ بل لأنَّه موافق لهواهم.
نموذج من تفسيره المقطع الثالث
تتحدث الآيات (58 إلى آخر السورة) عن بعض ضوابط لبعض العلاقات الاجتماعية، وختمت ببيان حقوق الرسول، وقد فسَّر ابن كثير الآيات التي تحدثت عن أمر الخدم والأطفال غير البالغين؛ بالاستئذان قبل دخول غرف النوم -وبخاصة إذا لم يكن للغرفة باب يُغلق لفقرهم-.
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، فعلَّل سبب الاستئذان ثلاثاً ما يأتي:
- (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ)، لأنَّ الناس في ذلك الوقت يكونون نياماً في فرشهم، والنائم لا يضبط عورته.
- (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ)، أي في وقت القيلولة؛ لأنَّ الإنسان في المناطق الحارة قد يدخل غرفة نومه -في ذلك الوقت- ويتخفف من ثيابه، هو وزوجته، حتى لو لم يناما.
- (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ)
لأنَّه وقت النوم، يجدر التنبيه بأنَّ ذِكر الأوقات الثلاثة للاستئذان لا تعني إباحة فتح الأبواب المغلقة لغرف النوم خارج تلك الأوقات، فقد نبَّه إليه ابن عباس أنَّ الآية نزلت في وقت كان الناس ليس لهم أبواب تُغلق على مداخل غرف نومهم.
بسبب ذلك أمر الله -تعالى- الخدم وغير البالغين أنْ يستأذنوا في تلك الأوقات، ثم حين بسط الله عليهم الرزق وامتلكوا الأبواب، كفاهم مِن وجوب الاستئذان إذا وجدوا الباب مفتوحاً.