تفسير آية (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم)
تفسير آية (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ)
سياق الآية
جاء هذا الجزء من الآية في سياق الرد على الذين أشركوا بالله -عز وجل- غيره، ومحاججتهم بمنهج علمي عقلي يقوم على البراهين والبينات؛ وذلك بمطالبتهم إثبات صحة ادعائهم بدليل نقلي أو عقلي صالحٍ للإثبات إن كانوا صادقين، قال الله -عز وجل-: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
معاني المفردات
فيما يأتي بيان لمعاني المفردات في الآية الكريمة:
- (بكتاب من قبل هذا): أي بكتاب موحى من الله -عز وجل- لرسول من رسله السابقين يأذن فيه أن يشرَك به.
- (أثارة): قرئت (أثارةٍ، وإثارةٍ، وأثَرَةٍ، وأثْرةٍ)؛ وكلها دائرة في معنى الأثر الذي يدل على ما كان قبله، ولو كان هذا الأثر شيئاً يسيراً جداً، فمرة بصيغة اسم الهيئة ومرة بصيغة اسم المرة، إلا قراءة (إثارة) فهي بمعنى إظهار وبراز الدليل، وقيل المقصود بها المناظرة من باب الاستعارة بتشبيه ما يبرز ويثار بالمناظرة، بما يثور من الغبار بحركات الفرسان.
المعنى المجمل
يقيم الله -عز وجل- على المشركين الحجة ببطلان شركهم؛ بمطالبتهم بإثبات صحته بمنهج علمي صالح، أوله عقلي حسي مبني على المشاهدة فمن عنده فليرنا من الذي شارك الله -عز وجل- في خلق السماوات والأرض.
وليس لأحد أن يثبت ذلك، فإن عجزوا عن ذلك -وهم عاجزون- فليأتوا بدليل نقلي أو بقايا دليل نقلي صحيح ثابت بكتاب من عند الله -عز وجل- موحى لرسول من رسله فيه إثبات صحة دعواهم ولن يجدوا إلا ما ينقضه.
أثارة من علم منهج علمي سليم
العلم بمعناه الحقيقي هو الأصل الذي يقوم البراهين والدلائل والبينات، ولا يصلح أن يُدخل فيه ما ليس كذلك من الأوهام والظنون والخرص والخيالات والدعاوى العارية عن الدليل وأخوات ذلك، فذلك كله لا يصلح أن يكون داخلاً في معنى العلم.
من أجل ذلك كان من المنطق أن لا يُقبلَ ادعاءُ مدَّعٍ إلا بإثباته بدليل علمي أو عقلي صحيح، وبالرغم من اتفاق العقلاء على سلامة هذا المنهج إلا أن التطبيق العملي في الناس كثير النقض له والإعراض عنه.
شبهة وردها
الشبهة التي يريد بعض العرافين الاستناد عليها لإثبات سلامة ادعائهم إمكانية الاطلاع على الغيب؛ وهي قائمة على أن معنى (أثارة) هو الخط في الرمل وأن ذلك مما أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- نسبته لنبي من السابقين، والحقيقة أن هذا منقوض بنص هذه الآية نفسها وبتبيين معنى الحديث المنقول في ذلك أيضاً بياناً صحيحاً متوافقاً مع القرآن الكريم وأصول التوحيد.
حقيقة الأمر
قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: "وَحَقِيقَتُهُ تَرْجِعُ إِلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ، فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ سَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ، وَتَعَلُّقًا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دُرِسَتْ طَرِيقُهُ وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ".
"وَقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ، وَقَطَعَهُ عَنِ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِها، فَإِنَّ اللَّهَ قد رفع تلك الأسباب وطمس تيك الْأَبْوَابَ وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ".