تحليل قصيدة نهج البردة
أحمد شوقي
هذه القصيدة من نظم أمير الشعراء المصري أحمد شوقي، والذي يُعدّ من أشهر شعراء العصر الحديث، فقد أسهم في النهضة الثقاقيّة، والأدبيّة.ألّف الشاعر أحمد شوقي العديد من القصائد المتنوّعة في المديح، والوصف، والغزل، والرّثاء، وكانت قصائده مُفعمّة بالصدق، والحضور، والحيويّة، فقد كان شوقي مُلهماً بالفطرة الفذّة في نظم الشعر بانسياب وسهولة، وكانت معظم قصائده مُوجّهة لأمّته العربيّة والإسلاميّة، نظم أحمد شوقي قصيدة نهج البردة في مدح الرسول عليه السلام، مُتأثراً بالشاعرين كعب بن زهير، والإمام البوصيري.
تحليل قصيدة نهج البردة
الآتي تحليلاً لقيدة نهج البردة اعتماداً على الأفكار الرئيسة الواردة فيها:
الأبيات (1-2)
استهلّ شوقي قصيدته نهج البردة، مُتأثراً بالشاعرين كعب بن زهير، والبوصيري، فبدأ قصيدته بالغزل كما اعتاد الشعراء قبله، شبّه شوقي جمال المحبوبة بجمال الظبي الواقف بين أشجار الغابة الخضراء الخلاّبة، إلا أنّ منظر الظبي شدّ وأبهر شوقي أكثر من جمال الغابة، حتى شبّه شوقي شدّة جمال الظبي بالسيف القاطع الذي قتله بالرغم من حرمة سفك الدماء في الأشهر الحرم (ذو القعدة، ذوالحجة، محرم، رجب) في الإسلام، كما أشار شوقي أنّ الأسد الذي يرقد في مسكنه بالرغم من قوّته وجبروته، لم يتحمّل النظّر إلى هذا الظبي ذي العينين الجميلتين، وكأنّه يستعين بغيره من شدّة جمال هذا الظبي.
الأبيات (3-4)
وصف شوقي شعوره اتجاه هذا الظبي عند النظر إليه بنظرة ثابتة، حيث أحسّ شوقي أنّ سهام الحب قد أصابت قلبه ووصلت كبده الصغير الذي لا يستطيع أيّ طبيب معالجته، فوضّح شوقي مدى الألم الذي سببّه له هذا الظبي، ولكنّه لم يستطع البوح لأحد بهذا الألم، وعن لوعة هذا الحبّ معتقداً أنّ هذا الحبّ لن يؤثر عليه نفسيّاً أو ذهنيّاً.
الأبيات (5-7)
بيّن شوقي الخصال التي يجب أن يتحلّى بها كلّ محب وهي السماحة وحسن الخلق، وخصّ أيضاً التماس الأعذار للنّاس، وهذه الصفة معروفة من شيم العرب الأصيلين، وطلب شوقي ألاّ يلومه أحد في وقوعه للحب، ولو أنّ الذين يلومونه عاشوا نفس التجربة لما أنّبوه أو عاتبوه، وسأل شوقي لائميه، هل تعتقدون أني أسمعكم حين تتحدثون أو تلومون؟ صحيح أنّي أقدم أذناً صاغية لكم، إلاّ أن قلبي مشغول بما أصابه من حب ولوعة منذ رؤية ذاك الظبي ويقصد الفتاة.
الأبيات (8-10)
أثنى شوقي على جمال طرف حبيبته ووصفه بالوسنان، ودعا الله لها ألاّ تذوق طعم الحبّ، حتى لا تتعذّب ويُضنيها طعم الحبّ كما حصل له، ودعا لعينيْها أن تناما نوماً هنيئاً قريراً، كما عاد شوقي ليؤكّد حُبّه لحبيبته التي لم تُبادله بالمثل، فهو بذل لها كلّ ما بوسعه من رأفةً ورحمةً وحنان، وهي قابلته بشُحّ المشاعر، واستخدم شوقي المتضادّات اللغوية للتعبير فيها عن مشاعره اتجاه حبيبته، وتناقض المشاعر بينهما، وتمنى أن يصلها كما يصل الحبيب حبيبته حتى لو في أحلامه.
الأبيات (11-13)
شبّه شوقي قوام المرأة بغصن البان الطويل الذي يتمايل، فيميل معه قلب الرجل، وعددّ أنواع النساء ودهائهن، فمنهن من تلعب بقلب الرجل حتى تُوقعه مُصاباً، وشبّه وجوه بعضهن بالقمر المكتمل حتى أنّ الشمس تغار منهنّ حين تُسقط أشعتها على صدور النساء المحلاة بالقلائد والأحجار الكريمة، وأكدّ شوقي أنّ حركة إسدال جفون النسوة قد تُسبّب الموت لبعض الرجال، لما لها وقعٌ وأثرٌ في نفوس العاشقين.
الأبيات (14-19)
صوّر شوقي جمال مشية هؤلاء النسوة الممشوقات بما فيها من ثقة، ووقار، وهيبة بأنّ قدم كلّ منهنّ تطأ قلوب الرجال دون أن يشعرن، وقد يضرمن النّار في قلوبهم وأكبادهم حين يضحكن بخجل واستحياء، فلا يستطيع الرجل مقاومة كلّ هذا الجمال أمام حاملات لواء الجمال، بغض النّظر عن نوع الجمال، وشكله، ولونه، فهو بالنّهاية جمال متكامل، ومتناسق، وحسن مطلق، وإنّ ما يهم بالنساء هو حُسنهنّ الذي شبّهه شوقي بالعلامة المرتفعة التي يعتصم بها الرجال أمام النساء الحسنوات الباهرات الجمال، وأكّد شوقي أنّ هذه النوعيّة من النساء الحسناوات لا يُقدِّر حُسنهن وجمالهّن إلاّ من يعرف ويذوق طعم الجمال، وبالنّهاية استسلم شوقي وأكّد وهنه، وخضوعه لهذا الجمال الذي سيطر على جسده، وروحه، وقلبه حتى جعل جسده بساطاً لهذه الحسناء تمشي وترتع عليه كما تشاء، تجول في أحشائه، وتتسلّق مرتفعاته، وتنزل في وديانه، تعبث وتلهو به كما تشاء.
الأبيات (20-22)
هنا ذكر شوقي على أنّ الحسناء التي وقع في حُبّها هي ابنة رجل عظيم، ممّا زاد أمره خوفاً، وهلعاً، فأُمنيته ومنيّته تحدّدت في مكان واحد وهو قصر أبيها، أصبح شوقي يتساءل متى وأين سيُقابلها، في ضوء النّهار الساطع أم في خفية اللّيل الحالك؟ في الغابة أو في قصر أبيها؟ ويستطرد مُندهشاً كيف يخرج من صُلب هذا الفحل، هذه الزهرة اليانعة الرقيقة، وكيف يخرج وينمو من هذا الأسد المفترس هذا الغزال الناعم.
الأبيات (23-24)
عاد شوقي يتساءل مرّة أخرى كيف سيتواصل مع محبوبته، وكيف سيتجاوز العوائق؛ فأبوها رجل عظيم ذو سلطان وحسب، وجاه، والعائق الثاني عفتّها وطهارتها اللتان تمنعانها من وصل الحبيب، فتأكدّ شوقي أنّه لن يصل محبوبته إلاّ في أحلامه فهي بعيدة عنه كبُعد مدينة إرم التي ذكرها القرآن الكريم.
الأبيات (25-30)
حاول شوقي إقناع نفسه بأن لا يثق بمغريات الدنيا وبهجتها، فلا ندري ما كُتب في الغيب من قدر وحزن، وشبّه الدنيا بالأفعى الرقطاء أي المنقّطة بالأبيض والأسود، فلونها جميل ولكنّها تحمل السمّ في فمها، وتابع شوقي أنّ السم الذي يخرج من فم الأفعى، كالابتسامة المزيّفة التي نراها من مغريات الدنيا، وشبّه شوقي الدنيا بالمرأة فهي مطلوبة منذ نشأة الخلق، والجميع يسعى للحصول عليها والاكتساب منها، فهي مغرية ومثيرة للناّس، فيتسابقون عليها كما يتسابق الرجال لخطبة امرأة جميلة لا يموت ولا يرحل عنها زوجها أبداً، و لكن الدنيا تظلّ تحمل هموماً ومآسي من أوّل الدهر كقصة سيدنا آدم وحزنه على فقد ابنه، وسيدور هذا الحال على الناس حتى نهاية الكون، ولعلّ شوقي أراد أن يُنبّه نفسه بأن لا تغتر بخيرات هذه الدنيا، فالموت يأتي فجأة بدون استئذان، وبدون أسباب، والناس غافلون عن هذه الحقيقة، فيتمنّون ويحلمون ويسعون كلّ حياتهم في تحقيق أمانيهم، ثم تُباغتهم المصائب فجأة وهم لا يُدركون.
الأبيات (31-38)
أكمل شوقي مبيّناً حقيقة أزليّة في هذه الدنيا وهي أنّها بقدر ما تُعطي فرحاً ونعماً، فلا بُد أن تُهدي همّاً وألماً، تارةٌ لك وتارةٌ عليك، وأكدّ شوقي أنّ هذه الدنيا تخدع الناس وتتلاعب في الحقيقة وتقودهم لاتباع ملّذاتهم، فيصبح الناس ماشين في الدنيا بلا حكمة ولا بصيرة، يرتكبون المعاصي وهم غافلون عن حقيقة التهلكة، ويسوّدون صفحاتهم في الذنوب والمعاصي وملّذات الحياة، وينسون تزويد أنفسهم بالطاعات، فيصبحون فرائس للملّذات، هائمين باللهو واللعب، ثم وضّح شوقي أنّ التخلص من هذه الحال يأتي بتقويم الأخلاق وإصلاحها، فهي الطريق لحماية النفس من الانزلاق في هذه الزلاّت، ثم أكدّ شوقي أنّ الجزاء من جنس العمل، فالنفس الطيّبة التي تتخذ الصلاح سبيلاً، سوف تحصد من الخيرات والعافية مقابل ما زرعته، أمّا النّفس السيئة التي اتخذت الشر سبيلاً سوف تحصد زرعاً رديئاً، وأكدّ شوقي على أهميّة التحكم بالنفس ومراقبتها ومحاسبتها باستمرار، حتى لا تغرق في الملّذات، وشبّه أنّ الذي يسيطر على نفسه، كالفرس الذي يسيطر على اللجم.
الأبيات (39-41)
هنا دعا شوقي الله عزّ وجل، متوسلاً برسوله عليه السلام قائلاً: إن كنت مذنباً ذنوباً عظيمة لا يغفرها الله عز وجل يوم القيامة، يوم لا ينجي أحد إلاّ من برحمة الله وعصمته، فأنّي أتوسل بصاحب الشفاعة الأعظم الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والذي خُصّ بالشفاعة لنا يوم القيامة دون باقي الأنبياء، ووصف الرسول عليه السلام بأنّه مفرج للكروب والهموم في الدنيا والآخرة، وهذا أوّل بيت في قصيدة البردة بدأ به شوقي بتعظيم الرسول عليه السلام.
الأبيات (42-44)
عادة يقوم المؤمنون الأتقياء بتقديم صالح الأعمال على أن تكون شفيعة لهم يوم القيامة، أمّا شوقي فسوف يسكب دموع التوبة والندم بين يدي رسول الله عليه السلام، على الذنوب والمعاصي التي ارتكبها فهو خير شفيع في الدنيا والآخرة، ويدعو شوقي للتمسّك بالقرآن الكريم، والسنّة الشريفة؛ لأنّ من يتمسك بهما لن يضل أبداً فهي خير نجاة للطريق الصحيح، ومن يطبق تعاليم الدين المستوحاة من نهج القرآن الكريم والسنة الشريفة فإنّه سوف يغنم ويفوز يوم القيامة بلقاء الحبيب المصطفى ونيل شفاعته، فهو أمير الشفاعة لأمتّه، وصاحب الفضل الأعظم علينا.
الأبيات(45-48)
أراد شوقي مدح الرسول عليه السلام ليكون له ذخيرة وعمل صالح يشفع له يوم القيامة حين يلقى به الله عزّوجل ورسوله الأعظم، كما أحبّ أن يبني صلةً وطيدة بينه وبين الرسول عليه السلام حين مدحه وعظّمه في هذه القصيدة، ويُشير شوقي إلى القصيدة التي نظمها الشاعر زهير بن أبي سلمة حين مدح فيها هرم بن سنان وبالغ فيها بالمديح، بأنّها لا توازي ولا تُقاس بالقصيدة التي نظمها شوقي في مدح الرسول عليه السلام، وعاد شوقي يمدح رسول الله آملاً شفاعة رسول الله يوم القيامة، وقد شبّه شفاعة رسول الله بحوض الماء الذي يروي الظمأ حين يتهافت جميع الناس على هذا الحوض طالبين سقيا الرحمة والمغفرة في شدّة هذا الموقف.
الأبيات (49-52)
شبّه شوقي نور الرسول عليه السلام وهديه بنور الشمس الذي يضيء كلّ ما حوله، واعتبر الرسول عليه السلام أعلى منزلةً ومكانةً من النجوم والفلك السارح في مجرّته، فالرسول عليه السلام أشرف، وأعظم مكانةً، وتقديراً، ورفعةً من ذلك النجم الذي تبوأ مكاناً عالياً في السماء، كما شبّه شوقي نور النجوم الذي ينبعث منها بالنور والضياء الذي ينبعث من الرسول عليه السلام، وبيّن شوقي عادةً أن الفرع ينمو من الأصل ولكنّه على غير العادة هنا الأصل نما من الفرع حين شبّه علو الكواكب وضياء النجوم بعلو ومكانةً رسول عليه السلام.
الأبيات (53-58)
ذكر شوقي كيف تعرّف الراهب بحيرا على علامات نبّوة الرسول عليه السلام في وقت مبكر من خلال سمات وصفات ظهرت على رسول الله أثناء عمله في التجارة بين مكة والشّام، بالرغم أنّ التعرّف على دلالات النبوّة في ذلك الوقت كان مستحيلاً، إلا إذا سأل أحد جدار الغار ومهبط الوحي الذي كان يتعبّد به رسول الله فهو الشاهد العيان على وحي النبوّة، أو إذا سأل أحد جبريل عليه السلام عن أمر النبوّة وهذا أمر مستحيل لن يحصل، ثم يُطرد شوقي متحدثاً عن السبيل أو الطريق الذي شرّفه الرسول عليه السلام باتخاذه حين كان يسلكه رسول الله ذهاباً وإياباً من داره إلى غار حراء صباحاً ومساءً للتعبّد طوال الوقت، وكانت هذه الخلوة بينه وبين الله عزّ وجل، أفضل، وأعز، وأشهى لديه من مخالطة النّاس والأهل، فكان يُناجي ربّه ويطلب الخير للجميع، فكيف لا؟ وهو صاحب الفضل العميم، وذكر شوقي إحدى معجزات الرسول عليه السلام ودلائل نبّوته، حين ضرب بكفه الأرض ففاضت منها الماء وسقى الصحابة والحيوانات حتى ارتووا.
الأبيات (59-61)
استطرد شوقي في معجزات الرسول عليه السلام، ذاكراً حادثة السحابة التي تجمعت فيها الأمطار والخير حين أظلّت واستظلت بالرسول عليه السلام حين كان متجهاً بتجارةٍ نحو الشام، وأكمل شوقي في وصف هذه الحادثة قائلاً إنّ الرّاهب النصراني بحيرا المتعبد بديرته، والناس الصاحين قد شعروا بخيرات الرسول عليه السلام ولطائفه، وتوقّعوا ظهور خاتم الأنبياء.
الأبيات (62-68)
أشار شوقي هنا إلى بعثة رسول الله ونزول الوحي جبريل عليه السلام بأمر من الله عزّ وجل طالباً منه أن يقرأ، فكلمة اقرأ أوّل كلمة بينه وبين الله تعالى مباشرةً لم يتصل بها أحد، ويكمل شوقي في وصف الرسول عليه السلام حين خرج إلى مكة يصدح للإسلام والتوحيد فدوّت دعوته أسماع أهل مكة، ثم يُبيّن شوقي كيف استقبل أهل مكة خبر هذه الدعوة من رجلٍ كانوا قد لقّبوه بالصادق الأمين، وهم الآن بين مُصدق ومُكذب لهذا الخبر، ثم عاد شوقي لمدح مناقب الرسول عليه السلام، وذكر علوّ مكانته بين الأنبياء وتفضيله عليهم كخاتم الرسل والأنبياء، وقد منحه الله عز وجل وميزّه عن سائر خلقه في حُسن الخُلقِ والشكل.
الأبيات (69-74)
أكمل شوقي المقارنة بين الرسول عليه السلام وباقي الأنبياء، وكيف حباه الله دون باقي الرسل بمعجزات ودلائل بقيت محفوظة حتى يوم الدين، كمعجزة القرآن الكريم الكتاب الذي تعهّد الله بحفظه إلى يوم الدين وأحكامه وشرائعه صالحة لكلّ زمانٍ ومكان، أمّا باقي الرسل فقد انتهت معجزاتهم بسبب تحريف البشر لها، ويُتابع شوقي مدحه للرسول عليه السلام، واصفاً فصاحته باللّغة العربية بالرغم أنّه كان أُميّاً لا يعرف القراءة والكتابة، إلاّ أنّ معجزته كانت تُباري شعراء قومه آنذاك، وكان كلامه عذباً يقع في آذان المستمعين كالدرر الثمينة فيُضيف لها طعماً ولوناً جديداً، ويُحيي بها أصحاب القلوب الميّتة، ويوقد بها الهمم من جديد.
الأبيات (75-79)
تحدّث شوقي هنا عن مولد رسول الله، وكيف تغيّرت الدنيا بمجيئه، فعمت أنواره الشرق والغرب، وهزت كيان الطغاة من الملوك وغيرهم، وأقلقت نفوسهم وأسقطت جبروتهم فيما بعد، ووصف شوقي حال الناس حين جاء مولد الرسول عليه السلام، فكانت الفوضى تسكن قلوبهم وعقولهم وأمكنتهم، يعبدون الأصنام كالأصنام، والظلم والبهتان يعمّان كل مكان، فكسرى ملك الشرق يغرق شعبه بالظلم والعدوان، وقيصر الروم ملك الغرب أهلك شعبه ظلماً وطغيان، وكذلك القوي يأكل الضعيف كما يأكل الحوت صغار السمك.
الأبيات (80-84)
أكمل شوقي معجزات الرسول عليه السلام ، وذكر شوقي حادثة الإسراء والمعراج، كيف سرى رسول الله من مكة إلى بيت المقدس ليلاً، ووصف حال الملائكة مرحبين مستقبلين له، وكل الحاضرين مُلتفيّن به كما يلتف الجنود حول رايتهم، ووصف المصلّين وراءه بهذه الليلة بالفائزين في الدنيا والآخرة، ثم ينتقل شوقي لحادثة المعراج، فيصف كيف عرج الرسول عليه السلام بالبراق، وهي الدابة التي سخرها الله عز وجل للرسول عليه السلام للتنقل في رحلته بين السموات والأرض، وكانت دابّة مرصعة أحمالها بالأحجار الكريمة والدرر، سخرها الله تكريماً وتشريفاً للرسول عليه السلام، فوصلت به حتى السماء السابعة التي لم يصلها أحداً قبله،ُ وسُمح له بالاقتراب من العرش، وكانت معجزة أراد الله بها التشريف والتعظيم لهذا الرسول الكريم.
الأبيات (85-93)
أكمل شوقي حديثه عن الرسول عليه السلام وبيّن كيف علّم الناس ونشر العلم بينهم، واطلّع على أسرار اللوح المحفوظ، وتعلّم جميع علوم الدين والدنيا، وتعلّم الأوامر والنواهي، ثم ذكر الشاعر حادثة الهجرة النبويّة، وكيف خرج الرسول عليه السلام متخفيّاً مع أبي بكر، ويذكر كيف احتميا بغار ثور، وأوحى الله إلى العنكبوت نسج خيوطه لحمايتهما من مطاردة كفار قريش، وأمر الحمامة أن تضع بيضها عند مدخل الغار، ويتعجّب من كفار قريش لعدم ملاحظة النور الساطع من الغار، أوعدم سماع آيات القران والتسابيح، ووضح شوقي كيف ارتدّ كفار قريش هائمين خائبين، وكأنّ الملائكة والمسلمين يدعون عليهم باللّعنة، بسبب كرههم لرسول الله وكرههم للحق، ثمّ عاد شوقي وأكدّ أن من يتولّاه الله بحمايته لا يُضام.
الأبيات (94-99)
افتخر أحمد شوقي بأنّه يحمل اسم الرسول عليه السلام أحمد، وشعر بأنّه صاحب جاه، وشأن، بمجرد أن اسمه يتصف بالحمد، ثم أثنى على الإمام البوصيري صاحب البردة الأولى في مدح الرسول عليه السلام، التي نظمها في حبه الخالص والصادق لرسول الله، وكيف ألهم باقي المادحين من بعده في تنظيم شعرهم لمدح رسول الله، ويُشهد شوقي الله أنّه لم يكتب قصيدة البردة لمعارضة بردة الإمام البوصيري فهو يعرف تماماً مقام البوصيري والذي شبهه بالسيل المُمطر، وإنّما ألّف شوقي قصيدته طالباً القرب من الله من خلال قصيدته التي نظمها في مدح خير البشر، وأظهر شوقي تواضعه أمام قصيدة البوصيري، وبيّن أنّ ما نظمه شوقي لا يُضاهي شيئاً أمام بردة البوصيري، وأنّه شعر بالبكم حين ألّف البردة، وضرب مثل سحبان بن وائل الذي يُعدّ أفصح الناطقين باللغة العربيّة أنّه لا ينافس أيضاً الإمام البوصيري بفصاحته.
الأبيات (100-107)
استمرّ شوقي في مدح رسول الله، مستوحياً ثناءه من جمال الطبيعة، فشبه جمال الرسول عليه السلام بحسن جمال البدر، وشبه عطاء وكرم الرسول عليه السلام في البحر، وعلو أخلاق الرسول عليه السلام بقمم الجبال، كما شبّه حضور الرسول عليه السلام بلمعان النجم، وشبّه قوة رسول الله على الأعداء بقوّة الأسد، وأكمل في وصف شجاعته قائلاً أنّ الرسول عليه السلام استمال قلوب الأبطال في الحرب، فلم يخافوا على أنفسهم وهم يدافعون عن رسول الله، فالله عز وجل قد ألقى محبته في قلوبهم، ثم تابع في مدح الرسول عليه السلام أثناء الحرب، واصفاً وجهه بالبدر الذي يُضيء لأصحابه في المعركة كما يُضيء البدر في الظلام الحالك، وكيف كان الرسول عليه السلام في غزوة بدر مضيئاً لأصحابه النصر، مُبدداً ظلام الكفر والشرك، ثم ذكر يُتمَ الرسول عليه السلام موضحاً أنّه كان تشريفاً له فالبرغم من يتمه استطاع الرسول عليه السلام أن يكون عظيماً نبيلاً منفرداً بأخلاقه كاللؤلؤ الفريد.
الأبيات (108-109)
بيّن شوقي أن الأرزاق مقسومة بين العباد حسب مشيئة الله، إلاّ أنّ الرسول عليه السلام قد خُيّر في رزقه واختار أقلّه، وهو الوحيد المنفرد بتخيير رزقه.
الأبيات (110-111)
عاد شوقي موضحاً مكانة الرسول عليه السلام بين الرسل، فذكر معجزة سيدنا عيسى عليه السلام بإحياء الموتى بأمر الله، ووضح أنّ الرسول عليه السلام لا يقل شأناً في ذلك، فهو أحيا وأنقذ أمماً من الجهل والضلال، فمعجزة إحياء الموتى ومعجزة إحياء عقول البشر تستويان، وميّز معجزة الرسول عليه السلام بأنها كافة لجميع البشر، بينما معجزة عيسى عليه السلام لأفراد.
الأبيات (112-122)
ردّ شوقي على كفار قريش قائلاً أن الرسول عليه السلام لم يأتِ للقتل وسفك الدماء وإقامة الدولة بالسيف كما زعمتم، بل جاء داعياً باللين والرأفة وعندما قوبل بالرفض بعد نشر دعوته وعرضها في رسائل مشهورة للحكام، أقام الحرب ضد هؤلاء الطغاة، ووضح أنّ هؤلاء الناس فطرتهم تكره الخير، ولا تنفع معهم الموعظة الحسنة فعقولهم ضيّقة لا تتقبّل آفاق الدعوة الإسلاميّة، فكان لا بُدّ من إعلان الحرب عليهم، ثُم ذكر السيدة مريم العذراء وكم واجهت من الظلم هي والمؤمنين حولها حتى استطاعت نشر دينها بسماحة، ولولا أن الله سخّر لها رجالاً لنصرتها لما استطاعت أن تبلغ رسالتها، ولولا أنّ سيدنا عيسى عليه السلام له مكانة رفيعة عند ربه، لما حماه من أيدي اليهود ورفعه إليه دون أن يصلبوه أو يمسّوه بسوء وأبدل مكانه الواشي وصُلب عنه، وهكذا بدا أنّ العقاب كان بقدر الذنب الذي قام به هذا الواشي واسمه (يهوذا الأسخر بوطي) في حق سيدنا عيسى عليه السلام، وأكمل شوقي واصفاً إياه، بأنّه هو والرسول عليه السلام أخوة في النبوة وخّصه الله بأنّه نُفخ بروحٍ منه.
الأبيات (123-125)
عاد شوقي مادحاً للرسول عليه السلام، موضحاً كيف علّم الرسول عليه السلام المسلمين كلّ شيء يلزمهم في تفاصيل حياتهم، حتى أصول وفنون الحرب، وقوانينها، وأخلاقها أملاها عليهم، وحثّهم على الجهاد، وعرّفهم بأهميّته، وبيّن أنّه في بعض الأزمنة والعصور لم ولن تقوم الأمم إلّا بالجهاد.
الأبيات (126-131)
انتقل شوقي من عصر النبوة إلى العصر الحديث، وقارن حال المسلمين وانقسامهم بين اليوم والأمس، وكيف أضحوا فريسة للصليبين، بالرغم أنّ الرسول عليه السلام لم يسكت عن ظلم أحلّ به، فاسترد حقّه ونصره الله، ووصف شوقي الصحابة كيف كانوا يقاتلون وهم مكبرون مسبحون رغبةً في نيل الشهادة التي توصلهم إلى الجنة، ووصف شوقي سيوف تلك المقاتلين بأنّها فقدت ملامحها من شدة البأس في القتال، ودعا شوقي المسلمين بطريقة غير مباشرة للتوحّد أمام صفوف الصليبيّن وأعداء الدين.
الأبيات (132-133)
أشار شوقي إلى الشهداء الذين وهبوا حياتهم في سبيل إعلاء راية التوحيد والدفاع عن الدين، وحفظاً لعهد رسول الله عليه السلام، وأكدّ أنّ المسلمين مختلفون في تقواهم، وقدرتهم على الالتزام بالشريعة، وبهذا يختلف جزاء كلّ مسلم وقدره عن الآخر يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل، وأساس أيّ عمل صالح هي التقوى.
الأبيات (134-140)
وجّه شوقي خطابه للرسول عليه السلام قائلاً إنّ الله وهبك الشريعة الإسلامية السمحاء، حتى تُفجر همم وطاقات جميع المسلمين، وذلك عبر محاولتهم لفهم أدق تفاصيل الدين والتعرف على القوانين الإلهية ومحاولة تبسيطها وتفهيمها للناس والتي تدور كلّها حول محور عقيدة التوحيد، وشبّه شوقي التوحيد لله بمقبض السيف المُّرصع بالجواهر وذلك للدلالة على قوّة محور التوحيد وأهميته، وأيضاً ليرمز للوحدانية بالجمال المنقوش على أحد رموز القوّة وهو السيف، وبيّن شوقى كم كان مدى احتياج الناس للتوحيد، فقد كانوا يبحثون عنه في كل مكان، حتى وصل إليهم عند مجيء الرسول عليه السلام، وشبّه عقيدة التوحيد بنبع الماء الذي روى جميع الظمأى حوله، وشبّه مصادر الشريعة الإسلامية القرآن الكريم، والسنة النبويّة بالنّور الذي أضاء طريق السالكين به، فكانت عوناً لهم على ترويض رغباتهم وغرائزهم، وتقويم نفوسهم إلى الطريق الحقّ، من خلال القصص، والعبر، والعظات التي وردت لأقوامٍ سابقة في هذه المصادر، ولكن الله يختار من يشاء لهدايته، وذكر أّن هذه الشريعة قد أُنزلت من خلال منهج ربّاني دقيق لا يعتريه الخطأ، ومن يتمسك بهذا المنهج الربّاني لا بدّ أن يتصف بالقوة التي تؤهله لقيادة العالم، ويستطيع نشر رسالة الإسلام التي تدعو للتقوى والخير، ودليل ذلك انتشار وامتداد نفوذ دولة الإسلام منذ عهد الرسول عليه السلام، والخلفاء الراشدين والتابعين، وسيطرتهم على معظم الحضارات القديمة، وتطهيرها من عرق الشرك، ورفع الظلم عن الناس وجعلهم سواسية أمام الله، وذكر كيف كانت القبائل متناحرة ثم جاء الإسلام ووحدّها فأصبحت أمّة واحدة تُضحّي بأرواحها في سبيل نشر هذا الدين، وليس لها أيّ مطامع أخرى.
الأبيات (141-145)
بيّن شوقي فتوحات الدولة الإسلامية الممتدّة في أوروبا وإفريقيا وآسيا، وكيف استطاع المسلمون السيطرة على هذه الدول بشريعتهم وأفكارهم قبل سلاحهم، وكيف أثرّوا على عقول ساكينها فأصبحوا قادة وعلماء ينشرون الدين والعلم والتحضّر مثل ابن خلدون، وابن سينا، والبخاري، والخوارزمي وغيرهم من الأئمة والعلماء والقضاة المسلمين، الذين جاهدوا وغيّروا مسار أمّتهم إلى أمة إسلاميّة موّحِدة.
الأبيات (146-151)
تطرّق شوقي إلى مقارنة بين القوانين الإلهية التي شرّعها الله مع القوانين الأرضيّة الإنسانيّة التي وضعها الحكام، فقارن حضارة روما وحضارة اليونان بالحضارة الإسلامية وشبّه الحضارة الإسلاميّة بما تحتويه من فكر بالياقوت والأحجار الكريمة إذا ما قورنت بباقي الحضارت، وأشار إلى حضارة فارس وحاكمهم كسرى الذي كان يتربع فخراً على إيوانه ولكنّه ما لبث وأن تصدع وانهدّ كيانه بل واحترق بمولد رسول الله، ثم ذكر حضارة فرعون وبيّن كيف أنّ حاكمها رعسيس قد شيّد الأهرامات بدل أن ينشر العدل، ثم عاد مرّة أخرى إلى مقارنة قوانين حضارة روما المتناقضة والمكتوبة بأيدي بشر، بقوانين حضارة دولة الإسلام العادلة التي لا تفرّق بين أحد، وأكدّ أنه لا يوجد شبه مقارنة بين لغة القانون الرومانيّ الضعيفة الساذجة بتراكيبها، ولغة القرآن الكريم البليغ بألفاظه وإعجازه.
الأبيات (152-156)
انتقل شوقي لمقارنة الأشخاص ببعضهم، فقارن قياصرة الروم الذين تملّكتهم حُب الشهوة، والظلم، والذل والجهل بخلفاء الدولة العباسيّة وهم الرشيد، والمأمون، والمعتصم الذين كانوا يدافعون ويحاربون عن حدود الله هدفهم نشر المعرفة والعدل، وكسب العلوم من العلماء بكلّ تواضع بالرغم أنّهم كانوا حُكامّاً، ووصف كرم الحُكّام المسلمين بالمطر الذي يجلب الخير إلى الأرض الجدباء فيحوّلها إلى أرض خضراء تنبت الخير، وأكدّ أنّه لا شبه للمقارنة بين هؤلاء الحكام العظماء وبين القياصرة الأشحّاء.
الأبيات (157-165)
تابع شوقي المقارنة بين الملوك المؤمنين وبين القياصرة الضّالين، فأشار مُتعجباً إذا كان بإمكان أحد إقامة دولة عادلة كدولة الفاروق عمر بن الخطاب ودولة متواضعة كدولة عمر بن عبد العزيز، ودولة مٌحبّة مُضحّيّة كدولة الإمام علي بن أبي طالب، حين ضحّى بنفسه ليلة هجرة الرسول عليه السلام، وعددّ الشاعر مناقب الإمام علي كرم الله وجهه فقد كان غنيّاً سخيّاً بعلمه، خفيفاً في الحرب، مبتسماً متواضعاً مع الناس، واصلاً رحمه برسول الله، وذكر شوقي مكانة ودور الخليفة عثمان بن عفان في حفظ القرآن ونسخه، فقد كان حريصاً عليه كحرص الأم الحنون على طفلها.تطرّق شوقي في بردته إلى مواقف الظلم، والقتل، والتعذيب التي تعرّضت لها الفئة المؤمنة على أيدي الكُفار، فأشار إلى استشهاد الخليفة عثمان بن عفان وهو حاملاً المصحف، ثم ذكر دور أبي بكر الصدّيق وعزمه وحزمه في حروب الرّدة والفتوحات الإسلاميّة ونشر الإسلام والحفاظ عليه في أوقات الشدّة وخمد نار الفتنة التي حاول أعداء الإسلام إيقادها.
الأبيات (166-168)
ذكر شوقي موقف عمر بن الخطاب لحظة وفاة الرسول عليه السلام، الذي حاول إنكار الخبر، مُشهراً سيفه بوجه من يدّعي هذا الخبر، وعذر شوقي موقف عمر فهو المُحبّ لرسول الله، ولم يستطع تحمّل خبر وفاة رجل عظيم ظنّ أنّه مُحصن من الموت.
الأبيات (169-174)
شارف شوقي على ختام قصيدة البردة، فيصلّي على خاتم الرسل والأنبياء، مستذكراً رحلة الإسراء والمعراج الذي رفعه الله فيها إلى سدرة المنتهى، ثم وصف الرسول عليه السلام كيف كان رحيماً شفيقاً بأمُتّه، مُحيي اللّيالي طالباً المغفرة والعفو لأمّته، مُسبّحاً طوال الليل، واستطرد شوقي واصفاً مناقب الرسول الله عليه السلام فكان راضياً، قنوعاً لا يشتكي، ولا يسأم، ولا يتعب، مستعيناً بمحبّة الله عزّ وجل في مواجهة الصعاب، ثم واصل شوقي الصلاة على الرسول عليه السلام، المصطفى المختار، صاحب الوحي على جميع أنبياء الله، وحامي البيت العتيق، حامل لواء الإسلام بعزة وكرامة في أحلك الظروف وأصعبها.
الأبيات (175-177)
تابع شوقي الصلاة على الخلفاء الراشدين (أبي بكر الصدّيق، عمربن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب) طالباً لهم الرحمة، فهم أصحاب رسول الله، لبّوا دعوته ونداءه في السلم والحرب، وعاضدوه في نشر الدعوة، ونفّذوا الشريعة بقوّة، وظلّوا صابرين على الكفار، كاظمين الغيظ، مجاهدين في سبيل الدعوة.
الأبيات (178-183)
اختتم شوقي قصيدته داعياً الله عزّ وجل للمسلمين، متوسّلاً إليه بقدرته فهو مُسخّر الكون، مُسيّر الأمر، مُغيّر أحوال الخير والشرّ بين العباد، بدأ فضله على المسلمين بإرسال الرسول عليه السلام نبياً لهم، فدعا شوقي الدعاء بأن يُتمّم الله فضله ونعمته على المسلمين بمنحهم حُسن الخاتمة كما منحهم حسن البداية ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.