بحث عن غزوة تبوك
أسباب غزوة تبوك وتاريخها
أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بالجهاد ضد الروم، وقد تعدّدت أسباب غزوة تبوك، ومنها ما يأتي:
- أمْر الله -تعالى- لرسوله الكريم بالجهاد واستجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لذلك الأمر، قال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا قاتِلُوا الَّذينَ يَلونَكُم مِنَ الكُفّارِ وَليَجِدوا فيكُم غِلظَةً وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقينَ). واختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- الروم وذلك لأنَّهم الأقرب إليه، وأوْلى الناس بدعوتهم إلى الإسلام لقربهم من الإسلام وأهله، قال -تعالى-: (قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِاللَّـهِ وَلا بِاليَومِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمونَ ما حَرَّمَ اللَّـهُ وَرَسولُهُ وَلا يَدينونَ دينَ الحَقِّ مِنَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعطُوا الجِزيَةَ عَن يَدٍ وَهُم صاغِرونَ).
- وصول أخبار للمسلمين أنَّ أهل الشام قد عزموا على أن يغزو المدينة المنورة ، وهذا ما دفع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يستنفر المسلمين للخروج لهذا العدوّ والاستعداد لاستقباله قبل أن يأتيهم في أرضهم، وهذا ما قاله المؤرّخون، وقال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: (كانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قَلَّما يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إلَّا ورَّى بغَيْرِهَا، حتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في حَرٍّ شَدِيدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا ومَفَازًا، واسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أمْرَهُمْ، لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وأَخْبَرَهُمْ بوَجْهِهِ الذي يُرِيدُ).
وقد كانت هذه الغزوة في السنة التاسعة للهجرة، في شهر رجب، يوم الخميس، وهي آخر غزوةٍ غزاها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لما رواه كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: (لم أتخلَّفْ بعدُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في غزوةٍ غزاها حتَّى كانت غزوةُ تبوكَ وهي آخِرُ غزوةٍ غزاها).
مكان غزوة تبوك وأحداثها
مكان غزوة تبوك
تبوك مكانٌ معروف يقع في نصف طريق المدينة إلى دمشق، وهو اسمٌ مشهورٌ قديماً وحديثاً، وقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان أنها موضعاً بين وادي القرى والشام، وأنَّها تقع بين جبلين هما: جبل حسمي غربها، وجبل شروري شرقها، وبينها وبين المدينة المنورة اثنى عشرة مرحلة، وقيل إنَّ تبوك هو اسم بركة لبني سعد من بني عذرة، وقال أبو زيد إنَّ تبوك عبارة عن حصن فيه عين ماء ونخل، وحائط يُنسب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقع نحو نصف طريق الشام، بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر.
أحداث غزوة تبوك
استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحشد للخروج إلى غزوة تبوك ثلاثين ألف مقاتلٍ من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى، لأنَّ الله -تعالى- في كتابه طَالَب الجميع بالنّفرة؛ سواء الشيوخ أم الشباب أم الفقراء أم الأغنياء، قال -تعالى-: (انفِروا خِفافًا وَثِقالًا وَجاهِدوا بِأَموالِكُم وَأَنفُسِكُم في سَبيلِ اللَّـهِ ذلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمونَ)، وتنقسم أحداث غزوة تبوك إلى عدّة أقسام على النحو الآتي.
أحداث قبل الخروج إلى غزوة تبوك
استجاب الناس لطلب الله ورسوله في الجهاد ولم يبق في المدينة إلا المنافقين وأهل الأعذار من الضعفاء، لكنَّ الغزوة كشفت عن إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين ، لأنَّ الشدائد دائماً تُظهر معادن الناس، والغزوة كانت في الحر الشديد الذي يرافقه الشُح في الماء والمال، والبُعد في الطريق، فانقسم الناس إلى عدة فئاتٍ في استجابتهم لنفرة القتال، والإنفاق لتجهيز جيش المسلمين على النحو الآتي:
- المؤمنون الصادقون: تصدّق بعض المسلمين الصادقين بكل ماله، وبعضهم جاء بنصف ماله، وضرب الصحابي عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أروع الأمثلة عندما جاء بألف دينار ووضعها في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففرح بها رسول الله وأخذ يُقبّلها وقال: (ما ضَرَّ ابنَ عَفَّانَ ما عَمِلَ بَعدَ اليَومِ).
- فقراء المسلمين: تصدقَّ فقراء المسلمين بما يملكونه وإن كان قليلاً، لكنَّ المنافقين أخذو يسخرون منهم لفعلهم هذا، ويقولون إنَّ الله -تعالى- غنيٌّ عن صَدقتهم لأنها قليلة، ولم يَسْلم الأغنياء أيضاً، فاتّهموهم بأنًّهم يتصدّقون من أجل الرياء والسمعة، لكنَّ الله -تعالى- فضَحهم بقوله: (الَّذينَ يَلمِزونَ المُطَّوِّعينَ مِنَ المُؤمِنينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذينَ لا يَجِدونَ إِلّا جُهدَهُم فَيَسخَرونَ مِنهُم سَخِرَ اللَّـهُ مِنهُم وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ).
- المنافقون: حاول المنافقون أن يتستّروا خلف صَدَقاتهم؛ لكنَّ الله -تعالى- ردَّ عليهم نفقاتهم وفضح نواياهم، وبيّنَ أنَّه لن يَتقبّل منهم، قال -تعالى-: (قُل أَنفِقوا طَوعًا أَو كَرهًا لَن يُتَقَبَّلَ مِنكُم إِنَّكُم كُنتُم قَومًا فاسِقينَ* وَما مَنَعَهُم أَن تُقبَلَ مِنهُم نَفَقاتُهُم إِلّا أَنَّهُم كَفَروا بِاللَّـهِ وَبِرَسولِهِ وَلا يَأتونَ الصَّلاةَ إِلّا وَهُم كُسالى وَلا يُنفِقونَ إِلّا وَهُم كارِهونَ)، وقد انقسم المنافقون إلى أقسام:
- القسم الأول: المنافقون الذين اعتذروا بأعذارٍ وعللٍ باطلة قبل الخروج، قال -تعالى- عنهم: (وَمِنهُم مَن يَقولُ ائذَن لي وَلا تَفتِنّي أَلا فِي الفِتنَةِ سَقَطوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بِالكافِرينَ)، وقد عفا الله -تعالى- عن نبيّه لأنَّه أذن لهم بالقعود، وبيّنَ له أن المؤمنين الصادقين لا يتحجّون بالأعذار الواهية، بينما يفعل ذلك المنافقون المتردّدون.
- القسم الثاني: المنافقون الذين حاولوا تثبيط همم الناس الذين يعزمون الخروج للجهاد ويقولون لهم: إنَّ الجو حار، فقال -تعالى-: (وَقالوا لا تَنفِروا فِي الحَرِّ قُل نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَو كانوا يَفقَهونَ).
- المسلمون العاجزون: هناك فئةٌ من العجزة والضعفاء من المسلمين لم تستطع الخروج للجهاد؛ إما لكبرٍ، أو مرضٍ، أو فقرٍ، لكنَّهم كانوا يبكون تحرّجاً من القعود عن القتال، حتى نزل فيهم قول الله -تعالى-: (لَيسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى المَرضى وَلا عَلَى الَّذينَ لا يَجِدونَ ما يُنفِقونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحوا لِلَّـهِ وَرَسولِهِ ما عَلَى المُحسِنينَ مِن سَبيلٍ وَاللَّـهُ غَفورٌ رَحيمٌ* وَلا عَلَى الَّذينَ إِذا ما أَتَوكَ لِتَحمِلَهُم قُلتَ لا أَجِدُ ما أَحمِلُكُم عَلَيهِ تَوَلَّوا وَأَعيُنُهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدوا ما يُنفِقونَ)، وقال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ بالمَدِينَةِ أقْوامًا، ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، ولا قَطَعْتُمْ وادِيًا إلَّا كانُوا معكُمْ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وهُمْ بالمَدِينَةِ؟ قالَ: وهُمْ بالمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ)، وكل ذلك لحسن نيّتهم، وصدقهم، وقبول عذرهم.
- المسلمون الصادقون الذين لا يملكون نفقة الجهاد: حزن الفقراء من المؤمنين الصادقين الذين لا يملكون نفقةً للخروج إلى الجهاد، فجاء سبعةٌ منهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يطلبون منه أن يوفّر لهم ما يحملهم عليه، فقال: (لا أَجِدُ ما أَحمِلُكُم عَلَيهِ)، فذهبوا وهم يبكون، ومنهم علية بن زيد الذي بقي يصلّي ويبكي ويناجي ربّه لأنَّه لا يجد ما ينفقه للجهاد، وعندما جاء الصباح أخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الله -تعالى- قد قبل صدقته، وغفر له، فقال له: (أَبْشِرْ، فوالذي نفسي بيدِه لقد كُتِبَتْ في الزكاةِ المُتَقَبَّلَةِ).
- المتباطئون: شقّ على بعض الناس الخروج للجهاد بسبب التوقيت الذي أعلن فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- النفير العام، حيث كان وقت جني الثمار والتمور، واشتهاء الظلال، فتباطأ بعضهم في الاستجابة، فعاتبهم الله -تعالى- بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا ما لَكُم إِذا قيلَ لَكُمُ انفِروا في سَبيلِ اللَّـهِ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضيتُم بِالحَياةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَليلٌ).
أحداث في الطريق إلى غزوة تبوك
كانت أحداث الطريق إلى غزوة تبوك كما يأتي:
- الانطلاق إلى غزو الروم: انطلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بجيش المسلمين من المدينة المنورة لغزو الروم؛ واستخلف على المدينة المنورة الصحابي محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-، وخلّف علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على أهله، لكنَّ المنافقون قالوا إن الرسول لم يأخذه معه لأنَّه مستثقلٌ منه، وتركه استخفافاً، وعندما سمع علي بهذا القول حمل سلاحه ولحق برسول الله وأخبره ما يقول المنافقون، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أمَا تَرضى أنْ تَكونَ مِنِّي بِمَنزِلةِ هارونَ مِن موسى، إلَّا أنَّهُ لا نَبيَّ بَعدي؟).
- تعرّض النبيّ وأصحابه للجوع الشديد أثناء طريقهم لتبوك: ثمَّ تابع رسول الله سيره ومعه ثلاثون ألف مقاتلٍ عبر الصحراء إلى تبوك، لكنّهم أخذوا يعانون من الجوع الشديد بسبب نفاذ زادهم؛ لأنَّهم تجهّزوا في وقت العسرة ولم يأخذوا ما يكفيهم، حتى أصابتهم المجاعة، واستأذنوا رسول الله بذبح الإبل التي تحملهم ليأكلوها، ولكنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اقترح عليه بأن يُبقي على الإبل لأنها ركوبهم، وأشار عليه أن يأمر المسلمون بأن يجمعوا زادهم ويدعوا لهم بالبركة، ففعلوا ذلك وبارك الله -تعالى- لهم وأطعمهم ببركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال لهم: (خُذوا في أَوعِيَتِكم، قال: فأَخَذوا في أَوعِيَتِهم، حتى ما ترَكوا في العَسْكَرِ وِعاءً إلَّا مَلَؤوه، وأكَلوا حتى شَبِعوا وفضَلتْ منه فَضْلةٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رسولُ اللهِ، لا يَلْقى اللهَ بها عبدٌ غيرُ شاكٍّ، فتُحجَبُ عنه الجَنَّةُ).
- تعرّض النبيّ وأصحابه للعطش الشديد أثناء طريقهم لتبوك: ففي الطريق أصاب الجيش عطشاً شديداً جداً، فطلبوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوا لهم، فدعا ربّه فأمطر عليهم ماءً من السماء، فاستقوا وملأوا أوعيتهم، وكان الصحابة في طريقهم يجمعون الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء، وفي ليلة قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، عَيْنَ تَبُوكَ، وإنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فمَن جَاءَهَا مِنكُم فلا يَمَسَّ مِن مَائِهَا شيئًا حتَّى آتِيَ،... ثُمَّ غَرَفُوا بأَيْدِيهِمْ مِنَ العَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا، حتَّى اجْتَمع في شيءٍ، قالَ: وَغَسَلَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- فيه يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ العَيْنُ بمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، أَوْ قالَ: غَزِيرٍ، شَكَّ أَبُو عَلِيٍّ أَيُّهُما قالَ، حتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قالَ يُوشِكُ، يا مُعَاذُ إنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، أَنْ تَرَى ما هَاهُنَا قدْ مُلِئَ جِنَانًا).
- موقف المنافقين في الرحلة لتبوك، والاعتبار بحال الأمم الماضية: ولم يتوقّف المنافقين عن كيدهم حتى في طريق الغزوة عندما ضاعت ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال رجلٌ منهم: كيف يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ رجُلًا يقولُ -وذكَر مقالتَهُ-، وإنِّي واللهِ لا أعلَمُ إلا ما علَّمني اللهُ، وقد دَلَّني اللهُ عليها، وهي في الوادي في شِعْبِ كذا وكذا، وقد حبَستْها شجرةٌ بزِمامِها، فانطلِقوا حتى تأتوني بها، فذهَبوا فأتَوْهُ بها)، وفي أثناء سير الجيش مرّ على الحِجْر -وهي أرض ثمود -، فجاء التوجيه النبوي بالاعتبار عند المرور بالأقوام السابقة التي غضب الله عليها، ووجّههم إلى عدم الانتفاع بشيءٍ منها ولا حتى بالماء ليتحقّق الاتعاظ.
- الوصول إلى منطقة تبوك: وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجيش المسلمين إلى تبوك، وأخبرهم بأنَّ ريحاً شديدةً ستهبّ، فقال: (سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فلا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنكُم فمَن كانَ له بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقالَهُ فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حتَّى أَلْقَتْهُ بجَبَلَيْ طَيِّئٍ)، وبقي الرسول -صلى الله عليم وسلم- والجيش في تبوك بضعة عشرة ليلة، لكنَّه لم يلقَ أي جندي من جنود الأعداء ولم يقاتل، لأنَّ الله -تعالى- ألقى في قلوب الروم الرعب بالرغم من كثرتهم وقوّتهم، فبقوا في الشام وآثروا السلامة على الذهاب للحرب، وحتى أنَّ حلفائهم مثل بعض القبائل المتنصّرة كتبت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتاب صلح، وصالحته على الجزية، وعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من الصحابة سالماً غانماً، وقد كانت غزوة تبوك تشبه غزوة الأحزاب من عدّة حيثيات، وهي:
- إن غزوة تبوك وغزوة الأحزاب لم يقاتل فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- إن غزوة تبوك وغزوة الأحزاب أوّلهما شدة وبلاء وعسرة.
- إن غزوة تبوك وغزوة الأحزاب عاد منهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- منتصراً بدون قتال.
أحداث العودة من غزوة تبوك
حاول مجموعةٌ من المنافقين اغتيال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريق عودته من غزوة تبوك، وقد آذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بألسنتهم، فنزل فيهم قول الله -تعالى-: (يَحلِفونَ بِاللَّـهِ ما قالوا وَلَقَد قالوا كَلِمَةَ الكُفرِ وَكَفَروا بَعدَ إِسلامِهِم وَهَمّوا بِما لَم يَنالوا)، وقد نقل ابن كثير عن الضحاك أنَّه قال: إنَّ هذه الآية نزلت في نفرٍ من المنافقين حوالي بضعة عشر رجلاً كانوا قد حاولوا الفتك بالرسول -صلى الله عليه وسلم- أثناء عودته من غزوة تبوك، ثمَّ بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريق عودته من غزوة تبوك خبر بناء المنافقين لمسجد ضرار في المدينة الذي نزل فيه قول الله -تعالى-: (وَالَّذينَ اتَّخَذوا مَسجِدًا ضِرارًا وَكُفرًا وَتَفريقًا بَينَ المُؤمِنينَ وَإِرصادًا لِمَن حارَبَ اللَّـهَ وَرَسولَهُ مِن قَبلُ وَلَيَحلِفُنَّ إِن أَرَدنا إِلَّا الحُسنى وَاللَّـهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكاذِبونَ* لا تَقُم فيهِ أَبَدًا لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوى مِن أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَن تَقومَ فيهِ فيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهَّروا وَاللَّـهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرينَ). فما وصل النبي المدينة إلا أمر بهدمه.
عندما وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قال: (هذِه طابَةُ، وهذا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ)، وقد خرجت النساء والصبيان والأولاد لاستقبال أكبر جيشٍ خرج لقتال المشركين في عصر السيرة، وينشدن "طلع البدرعلينا"، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فبدأ بالمسجد؛ فصلّى فيه ركعتين ثم جلس للناس، فجاءه المتخلّفون من المنافقين يعتذرون إليه بمختلف الأعذار، ويحلفون له، فقبل منهم علانيّتهم واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله -تعالى-، أما كعب بن مالك والثلاثة الذين خُلِّفوا معه فقد نزلت توبة الله عليهم في سورة التوبة ، في قوله -تعالى-: (لَقَد تابَ اللَّـهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهاجِرينَ وَالأَنصارِ الَّذينَ اتَّبَعوهُ في ساعَةِ العُسرَةِ مِن بَعدِ ما كادَ يَزيغُ قُلوبُ فَريقٍ مِنهُم ثُمَّ تابَ عَلَيهِم إِنَّهُ بِهِم رَءوفٌ رَحيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذينَ خُلِّفوا حَتّى إِذا ضاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِما رَحُبَت وَضاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنّوا أَن لا مَلجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلّا إِلَيهِ ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لِيَتوبوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ)، وقد سُمّيت غزوة تبوك بغزوة العسرة، وكانت آخر غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان فيها جيشٌ من أعظم ما رأته العرب؛ حيث ثلاثون ألف مقاتل، وعشرة آلاف من الخيل.
سبب تسمية غزوة تبوك
البَوْك في اللغة هو الحفر في الشيء والنّقش فيه، وقد سمّيت غزوة تبوك بهذا الاسم نسبةً لعين الماء التي كانت في منطقة وقوع المعركة؛ وهي عين تبوك، وسُمّيت بهذا الإسم لأنًّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر الصحابة إذا وصلو لها أن لا يمسّوا ماءها، لكنَّ الصحابيّان اللّذان وصلا لها في البداية أخذا يضعان فيها سهمان ليُكثرا مائها، وهو المقصود بالبَوْك والحفر، وعُرفت غزوة تبوك أيضاً بالفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، ونزلت فيهم آيات كريمة تدل على كذبهم، كقوله -تعالى-: (وَمِنهُم مَن يَقولُ ائذَن لي)، وقوله: (لا تَعتَذِروا قَد كَفَرتُم بَعدَ إيمانِكُم)، وغيرها من الآيات، وقد فضحت أساليبهم العدائية، وحقدهم الدفين، ونفسهم الخبيثة، وهتكت سترهم، وفضحت نواياهم البشعة في حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين.
وقد سُمّيت غزوة تبوك بغزوة العُسرة ، وهو اسمٌ ذُكر في القرآن الكريم، حيث قال -تعالى-: (لَقَد تابَ اللَّـهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهاجِرينَ وَالأَنصارِ الَّذينَ اتَّبَعوهُ في ساعَةِ العُسرَةِ مِن بَعدِ ما كادَ يَزيغُ قُلوبُ فَريقٍ مِنهُم)، وذلك بسبب الظروف الصعبة التي رافقت الغزوة، مثل: قلّة أعداد الدواب المعدَّة للركوب بالنسبة لعدد الجيش الكبير، والحرّ الشديد؛ حتى أنهم كانوا ينحروا البعير ليشربوا الماء الموجود في داخله، وقد اجتمع على الجيش العسرة في النفقة، والعسرة في الماء، والعسرة في الظّهير، فكان الرجلان أو الثلاثة يركبون على بعيرٍ واحد، بالإضافة إلى بُعد المسافة والمشقّة في قطعها مع قلّة الماء والزاد.
عدد المشاركين في الفريقين غزوة تبوك
خرج بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثون ألف مقاتلٍ عبر الصحراء إلى غزوة تبوك، بينما خرج الروم بأربعين ألف مقاتلٍ بقيادة عظيمٍ من عظماء الروم الذين كانوا أقوى دولةٍ في ذلك الزمان.
نتائج غزوة تبوك
حصلت عدّة أمورٍ بعد قدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام من غزوة تبوك منتصرين على الروم، حيث تعتبر نتائج لغزوة تبوك، ومنها ما يأتي:
- قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من غزوة تبوك بالاستغفار لرأس المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول عند وفاته، وصلى عليه بالرغم من محاولة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- منعه من ذلك، لكنَّ القرآن الكريم نزل مؤيّداً لرأي عمر.
- قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من غزوة تبوك بهدم مسجد ضرار.
- قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من غزوة تبوك بإرسال أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أميراً على وفود الحجّاج ليعلّمهم مناسك الحج ، وعندما مُنِع المشركون من الحجّ في سورة براءة أرسل أبو بكر -رضي الله عنه- رجالاً يخبرون الناس بأنه لا يجوز أن يحجّ بعد هذا العام مشركاً، ولا يجوز أن يطوف بالبيت شخصاً عارياً.
- استقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من غزوة تبوك عدداً كبيراً من الوفود، ووصلوا إلى سبعين وفداً، ولم تمضِ السنة التاسعة للهجرة إلا وقد سيطر الإسلام على الجزيرة العربية بالرغم من كبر مساحتها، فلم يوحّدها أحدٌ قبل رسول الله -صلوات الله عليه-.
- استطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من غزوة تبوك رفع معنويات المسلمين وإقناعهم أنَّ بإمكانهم محاربة الروم وحلفائهم والانتصار عليهم، وهذا الأمر لم يكن العرب ليحلَموا به قبل قدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكنَّهم أصبحوا يعتقدون أنَّ بمقدورهم الانتصار على الروم في عقر دارهم.
- قضى الانتصار المعنوي الذي حقّقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من غزوة تبوك على التردّد الذي كان منتشراً بين بعض العرب في الدخول إلى الإسلام، لعلمهم بقوّة المسلمين وأنَّهم لن يستطيعوا الثبات أمامهم بعد ذلك، فأخذت الوفود بالقدوم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتعلن إسلامها حتى سُمّيَ هذا العام بعام الوفود.
- عقد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد عودته من غزوة تبوك بعض التحالفات مع سكان المناطق الحدودية الشمالية التي تربط شبه الجزيرة العربية مع بلاد الشام، حتى أنَّ بعضهم أقبل على الإسلام، وقد سهّلت هذه المهمة على الخلفاء الراشدين -فيما بعد- من خلال إرسال الجيوش عبر هذه النقاط لفتح بلاد الشام.
العبر المستفادة غزوة تبوك
المتتبّع لأحداث غزوة تبوك يستطيع أن يصل إلى الدروس والعِبر الآتية:
- النفاق والمنافقين لا بُد أن يُفتضح أمرهم ولو بعد حين.
- طبيعة الحرب في الإسلام قائمةٌ على الدفاع عن الدين والبلاد، وردْع المعتدين، ولا علاقة لها بالعدوانية والاستفزاز، وإنما هي رسالة تحريرية للناس كافة وليس للعرب خاصة.
- أحداث غزوة تبوك وتجهيز جيشها الذي عُرِفَ بجيش العُسرة لصعوبة الوقت والجوّ والموسم الذي دعا به الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس لتجهيز هذا الجيش؛ استطاعت كل هذه الشدائد أن تميّز المؤمن الصادق من المنافق، مما أدى إلى تخليص الجيش من أمثال هؤلاء المخادعين الذين يعيقون مسيرة الإصلاح، وبالتالي انتصر هذا الجيش المتّحد الكلمة، وقوي الإيمان صادق العهد.
- مسارعة الأغنياء من الصحابة -رضوان الله عليهم- في البذل والعطاء من أجل إعلاء كلمة الله والنصر على الأعداء؛ كان دليلاً على ما يفعله الإيمان في نفوس أصحابه من الانتصار على غرائزها، ومقاومة أهوائها، والمبادرة إلى فعل الخير، وهذا ما تحتاجه الأمة الإسلامية اليوم، وما يجب أن يركّز عليه المصلحون، فذلك يوازي الجهاد بالنفس .
- الإيمان يصنع المعجزات، وكان ذلك واضحاً في قصة النّفر من الصحابة الذين كانوا يرغبون بالقتال، لكنَّهم لا يملكون ما يُحملون عليه، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً؛ لأنَّه فاتهم شرف الجهاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع أنَّ الطبيعة البشرية تقتضي فرح الإنسان عند بُعده عن المخاطر والحروب، إلا أنَّ إيمانهم الصادق خلَّد ذكرهم في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة .
- المؤمن الصادق لا يتخلّف عمّا يقتضيه الواجب تجاه جماعة المسلمين، وإن قام بذلك فهو مخطئٌ آثمٌ يحتاج إلى التوبة ، وهذا ما حدث مع الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك وليس لديهم عذر، ولكنَّهم تنبّهوا لفعلهم هذا بعد فوات الوقت، فندموا وتألّموا وتحسّروا، وعلموا أنَّهم ارتكبوا إثماً عظيماً بتخلّفهم عن رسول الله، حتى جاءت عقوبتهم رادعة وقاسية واعتزلهم الجميع لمدةٍ طويلة، إلا أنَّ صدق توبتهم استحقّت أن يتوب الله عليهم ورسوله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً.