بحث عن الإخلاص
الإخلاص
لا تُقبل أعمال العبد إلّا بإخلاص النية والقصد والإرداة لله تعالى، فقد أمر الله -تعالى- نبيّه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالإخلاص أكثر من مرّةٍ، و ورد ذلك في مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ)، فالأعمال لا تُقبل إلّا بالإخلاص فيها والمتابعة، ويقول الله سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، فورد أنّ أحسن الأعمال الواردة في الآية السابقة يُقصد بها الخالص منها والأصوب، فلا بدّ أن يكون العمل خالصاً وصائباً، فلا يُقبل العمل الخالص إن لم يكن صائباً، وكذلك لا يُقبل العمل الصائب إن لم يكن خالصاً أيضاً، ويُقصد بالعمل الخالص العمل لله تعالى، أمّا العمل الصائب فهو العمل الموافق للسنة النبوية الواردة عن محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك يقول الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا ينفع قول وعمل إلّا بنيةٍ ولا ينفع قولٌ وعملٌ ونيةٌ إلّا باتباع السنة)، ويقول سفيان الثوري: (ما عالجت شيئاً أشد على من نيتي لأنّها تتقلب عليّ)، وحقيقة الإخلاص تتمثّل بتوجيه وتحديد النية لله -تعالى- في الأعمال، دون رياءٍ ولا سُمعةٍ، أو سعي في القرب من أحد من الناس، أو نيل المدح والثناء منهم، أو الخوف والخشية من القدح والذم، وبذلك يسير المسلم إلى الجنة ، وتتحقّق له المكانة الرفيعة والمنزلة الجليلة، ويمنع الشيطان من التسلّط عليه.
صفات وأخلاق المخلصين
يسعى العبد إلى الإخلاص بالعديد من الأعمال والطرق التي توصله إليه، فالمخلصين يتحلّون ويتخلّقون بالعديد من الصفات التي تميّزهم عن غيرهم، وفيما يأتي بيان البعض منها:
- عدم إظهار الأعمال والحرص على إخفائها، والابتعاد عن القيام به أمام الناس، قال إبراهيم النخعي: (كانوا يكرهون أن يُظهِروا صالحَ ما يُسرُّون)، وقال أبو حازم: (اكتُم حسناتِك أشدَّ مما تكتم سيئاتِك).
- الخوف والخشية والحذر من الشهرة، وفي ذلك روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: (طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنانِ فرسِهِ في سبيلِ اللهِ، أشعثَ رأسُهُ، مغبرَّةً قدماهُ، إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ، وإن كان في الساقةِ كان في الساقةِ، إن استأذنَ لم يُؤْذَنْ لهُ، وإن شَفَعَ لم يُشَفَّعْ).
- لوم النفس وتقريعها واتهامها بالتقصير بما عليه تجاه الله تعالى، مهما أدّت وعملت من الأعمال الصالحة والعبادات والقربات، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ).
- تساوي المدح والذم لدى العبد، وفي ذلك يقول ابن القيم: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس؛ إلّا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدَّثتْك نفسُك بطلب الإخلاص فأقبلْ على الطمع أولاً فاذبحْه بسكين اليأس، وأقبلْ على المدح والثناء فازهدْ فيهما زهدَ عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبحُ الطمع، والزهدُ في الثناء والمدح؛ سَهُل عليك الإخلاص).
- التعرّف على فضل الإخلاص وأهميته، ومكانته الحقيقية، ومطالعة سير الصالحين والمخلصين، ومصاحبتهم.
- الدعاء وسؤال الإخلاص من الله تعالى، ومن الأدعية الواردة في الإخلاص، الدعاء الذي علّمه النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث قال له: (قل: اللهم إني أعوذُ بك أن أشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفِرُك لما لا أَعلمُ).
من مواقف المُخلصين
ضرب السلف الصالح وغيرهم أروع الأمثلة في الإخلاص، في مختلف العبادات والطاعات، من صلاةٍ ، وصدقةٍ، وصومٍ، وذكرٍ، وتلاوةٍ للقرآن الكريم، ومن المُخلصين في الصلاة: منصور بن المعتمر الذي كان يحاول أن يظهر نشاطه وحيويته في صلاة الصبح أمام أصحابه ويتحدّث معهم، رغم أنّه يكون قائماً لِلَّيل، وذلك حتى لا يُظهر عبادته في الليل أمام أصحابه، وفي الإخلاص في الصلاة قال محمد بن أسلم: (لو قدرت أن أتطوَّع حيث لا يراني ملكاي لفعلتُ؛ خوفاً من الرياء)، وقال كعب بن الأحبار في إخلاص العبادة لله: (مَن تعبَّد لله ليلة حيث لا يراه أحدٌ يعرفه، خرج مِن ذنوبه كما يخرج من ليلته)، ومن أمثلة الإخلاص في الصدقة ، ما كان من زين العابدين علي بن الحسين، الذي كان يحمل الخبز ليلاً ويتصدّق به، وكان يقول: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب)، ولمّا توفّي وغُسّل وجدوا على ظهره سواداً، وعندما سألوا عن ذلك، قيل لهم: (كان يحمل جراب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء المدينة)، وقال محمد بن إسحاق عن إخلاص علي بن الحسين: (كان ناسٌ من المدينة يعيشون لا يدرون مِن أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به في الليل)، ومن الإخلاص في الصوم، إخلاص داود بن أبي هند الذي صام أربعين سنةً لا يعلم بها أي أحدٍ من أهله أو غيرهم، فكان يحمل طعامه نهاراً ويتصدّق به في الطريق، وإن رجع إلى البيت أفطر مع أهله، كما أنّ عمرو بن قيس الملائي صام عشرين سنةً دون علم أهله، وفي إخلاص الصيام قال إبراهيم بن أدهم: (لا تسأَلْ أخاك عن صيامه، فإن قال: أنا صائمٌ، فرِحَت نفسه بذلك، وإن قال: أنا غير صائم، حزنَتْ نفسه، وكلاهما من علامات الرياء، وفي ذلك فضيحةٌ للمسؤول، واطلاعٌ على عوراته من السائل).