المبالغة في الشعر العباسي
المبالغة في الشعر العباسي
لا تنقل الأعمال الأدبية الحقائق كما هي، بل تضفي عليها تغييرات تساهم في تحقيق الجمال أو إيصال الفكرة، وقد تكون هذه التغييرات على شكل مبالغة كما عُرِف عن بعض قصائد الشعر العباسي إغراقها في هذه المبالغات لأسباب عديدة فرضها العصر، أو مالت إليها طبيعة الشعراء أنفسهم، وبهذا فقد شاعت المبالغة في شعر العصر العباسي وأفرطوا فيها إفراطاً فاق ما كان عند القدماء.
ما المقصود بالمبالغة
يعلّق الجرجاني على هذا بقوله: "فأما الإفراط فمذهب عام في المحدثين، وموجود كثيراً في الأوائل"، ويقول كذلك: "وطلب المتأخر الزيادة واشتاق إلى الفضل، فتجاوز غاية الأول، ولم يقف عند حد المتقدم، فاجتذبه الإفراط النقص، وعدل به الإسراف إلى الذم".
هذا وترد المبالغة في المعجم كمصدر للفعل بالغَ، والمبالغة في الكلام أي تجاوز الحد فيه، والمبالغة في الأكل أي الإفراط فيه، وهي الزيادة على الحقيقة في القول أو في الشعر وتزييف للمعنى لأغراض في نفس قائله، وقد يقال في المبالغة أن يلغ الأمر جهدك، ويقال إن قدامة بن جعفر العالم والناقد المعروف هو أول من أطلق هذا المصطلح النقدي، وقد سمي عند غيره التبليغ أو الإفراط في الصفة.
أسباب شيوع المبالغة في الشعر العباسي
يمكن لنا أن نقسم أسباب المبالغة في العصر العباسي إلى قسمين كالآتي:
أسباب حضارية
وهي تشمل كل التغييرات التي طرأت على الحياة في العصر العباسي من تغيير نظام الحكم أو تغيير مظاهر الحياة اليومية والاجتماعية، ويعد السبب الاجتماعي أحد أهم الأسباب المؤدية إلى شيوع المبالغة، وهذا ببساطة لاتصال الحياة الاجتماعية بالشعر والشعراء، والمجتمع العباسي قد تغير كثيراً فهو قد انتقل من مرحلة البداوة إلى مرحلة جديدة دخلت عليه فيها كل أسباب وعوامل الحضارة المختلفة المترفة، فقد اختلط بالأمم الأخرى فأعطاها وأخذ منها وتأثر بها في كل المجالات.
لم يعد ممكناً في هذا العصر أن يحاكي الشعر الجاهلي بحذافيره، فلم يعد الوقوف على الأطلال أو وصف الصحراء أو التشبيهات المستمدة من بيئة العربي القاسية هي التي تقترب من النفس والفهم في مجتمع قد صار عنده من أسباب الترف ما حوَّل نظرته نحو الوفرة والرخاء والحضارة.
أسباب نقدية
كان النقاد العرب يحملون على عاتقهم عبء حماية النمط الشعري القديم، فكانوا دائمي الدعوة إلى الالتزام فيه وعدم الخروج عن معاني وأساليب القدماء وحتى أنهم أفرطوا في الأمر فشددوا على أن المدح والذم يجب أن يكون محصوراً في صفات محددة لا يخرج عنها، وأمام هذا الضغط الواقع على الشاعر العباسي، لم يجد أمامه مخرجاً يلجأ إليه إلا المحسنات البديعية ، وتحوير المعاني القديمة.
لذلك يعتبر استخدام البديع ثورة على القيود النقدية التي وضعت على الشعراء وثورة على النمط الشعري المألوف والمتعارف عليه بينهم، فهي طريقتهم للتجديد الشعري، وإزالة الرتابة عن الأشياء وكشف علاقات جديدة بين عناصر الوجود المختلفة.
نماذج من المبالغات الشعرية في العصر العباسي
وردت كثير من النماذج للمبالغات الشعرية في هذا العصر لكثير من الشعراء الذي أوغلوا في استخدام المحسنات البديعية ومحاولات استحداث المعاني الجديدة وتوليدها من المعنى القديم وابتكار وسائل تزيل الرتابة عن الأشياء، ومن هذه النماذج قول الشاعر أبي العتاهية في مدح الخليفة المهدي:
يا ناق خذي بنا ولا تهني
- نفسك مما ترين راحات
حتى تنافي بنا إلى ملك
- توجه الله بالمهابات
عليه تاجان فوق مفرقه
- تاج جلال وتاج أخيات
يقول للريح كلما عصفت
- هل لك يا ريح في مباراتي
ومن هذه النماذج كذلك قول الشاعر أبي نواس :
دع الأطلال تسفيها الجنوب
- وتبلي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضاً
- تخب بها النجيبة والنجيب
بلاد نبتها عشر وطلح
- وأكثر صيدها ضبع وذيب
فلا تأخذ عن الأعراب لهواً
- ولا عيشاً فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال
- رقيق العيش بينهم غريب
إذا راب الحليب فبل عليه
ولا تحرج فما في ذاك حوب
ومن نماذج الغلو والمبالغة في الشعر العباسي قول المتنبي في مدح كافور الإخشيدي:
إن في ثوبك الذي المجد فيه
- لعيناء يزري بكل ضياء
إنما الجلد ملبس وابيضاض الن
- في خير من ابيضاض القباء
كرم في شجاعة وذكاء
- وبهاء وقدرة في وفاء
من لبيض الملوك أن تبدل اللون
- بلون الأستاذ والسحناء.