اللهو والمجون في العصر العباسي الأول
الحياة الحضارية في العصر العباسي
فتح العرب الشام والعراق وإيران ومصر، وورثوا الحضارات السابقة كالساسانية الفارسية والآرامية والكلدانية والبيزنطية والقبطية والمصرية القديمة، كما دخلت إليهم الثقافة الهندية والثقافات الشرقية، واجتمعت جميع خزائنهم لهم، بالإضافة إلى معارفهم جميعها العمرانية والطبية وغيرها، وقد شجّع الخلفاء العباسيون حركة الترجمة والنقل.
وبهذا تهيأت للحضارة الإسلامية في العصر العباسي أسباب الترف والرخاء، فتطاولوا في العمران واتسعوا في بناء القصور، واتخذوا نمط معيشتهم خاصةً الفارسية، وساعد على ذلك ظهور العنصر الفارسي في الحكم، الذي سعى لإعادة أمجاد الحضارة الفارسية الساسانية بجميع أشكالها.
كما هيّأت موجة التقدم الاقتصادي وما كان يجبى لخزينة الدولة من أموالٍ من شتى الولايات الإسلامية والتي لم يكن عليها رقيبٍ حيث كانت في أيدي الطبقة الأرستقراطية ظهور مظاهر الترف والتي أدت بدورها إلى التأثير على نمط الحياة الاجتماعية وظهور مظاهر اللهو والمجون في هذا العصر.
موجة اللهو والمجون
ورث المجتمع العباسي أساليب اللهو والمجون التي كانت مُنتشرة في الفارسية الساسانية، كأنواع الغناء المُختلفة، وإباحة الخمور، وانتشار الزندقة، وساعد على ذلك تساهل الخلفاء العباسيين من بعد المهدي، فانتشرت الخمّارات في المُجتمع العباسي وشاع الفسق والمجون فيها، وأصبح الشعراء والكتاب يتناولونها في شعرهم وكتاباتهم.
يصفونها ويصفون مراحلها وألوانها ومجالسها وأوعيتها وكؤوسها وحامليها وآثارها في العقل وغير ذلك من الأمور المُتعلقة فيها، وظهر شعر الخمريات الذي عُرف به شعراء أمثال أبي نواس .
دور الخمر وأماكنها
تعدّدت أماكن تواجد الخمر ومنها ما يأتي:
دور الغناء والرقص
حيث اقترن الخمر بالغناء والرقص، فتحوّلت دور الغناء والرقص إلى خمارات، فكان الشعراء وغيرهم يؤمنون هذه الحانات يشربون من الخمر ويستمعون للمغنين والمغنيات، ومن أشهر تلك الدور دار ابن رامين المقيّن في الكوفة، فقد جلب إليها طائفة من قيان الحجاز، كان يختلف إليهن للشراب والسماع مطيع بن إياس وصحبه من الشعراء وابن المقفع ومعن بن زائدة الشيباني وروح بن حاتم الباهلي.
البساتين في ضواحي بغداد
حيث كانت تعج بالحانات، كحانة بستان صبّاح التي وصفها مطيع بن إياس في بعض شعره، وبهذا أصبحت بساتين بغداد أو بعضها مركزاً لبيع الخمور وسماع المغنيات.
الأديرة
حيث كانت تقدم لروادها الخمر وقد تحولت قاعات الشراب فيها إلى مجامع للفتيان والشعراء يشربون الخمر ويتغنون بها، وقد كثرت هذه الظاهرة حيث جمعت في كتبٍ ودراساتٍ مُستقلة.
دور الشعراء أنفسهم
حيث حولوا دورهم لمقاصف للخمر والمجنون كدار إياس بن مطيع في الكوفة ودار بشار بن برد في البصرة ودار أبي نواس في بغداد.
أثر الخمر والقيان في المجتمع
أدّى إدمان الخمر والإسراف في شربه في المجتمع العباسي إلى ظهور المجون والخلاعة والإباحية، وقاد هذه الحملة الزنادقة الذين كانوا لا يحترمون ديناً ولا خُلقاً ولا عرفاً، وساعدهم على ذلك انتشار الجواري من الجنسيات الأجنبية التي لم تكن تصون كرامتها، ولم تلتزم الستر، وكانت تُخالط الشباب وتغويهم، وشجعهنّ النخاسون ليغوين أولاد الأشراف ويبتزونهم بذلك.
كانت القيان تتخذ الأخدان من الشباب وتكثر منهم، وتُرسل لكل واحد منهم أنّها له وتتبرم بالآخرين، وسبب ذلك أنّ القيان مُنذ نشأتها تعوّدت على ذلك بل تربّت عليه، فتنشأ على اللهو والغناء واتخاذ الأخدان وتبتعد عن كلّ ما يدعو لذكر الله تعالى، وفي هذه البيئة نشأ الشباب والشابات وكان الشعراء قد ابتعدوا عن أخلاق العرب ومروءاتهم وديانتهم.
راحوا ينظمون الشعر المُبتذل مُصرحين بخبائث النفس الإنسانية، فقد عادات الفرس إلى الوجود، وراحوا يبتذلون المرأة فهي مُجرد أداةٍ للهو والمرح وقضاء حوائج النفوس الخبيثة، وكان من بين هؤلاء الشعر إياس بن مُطيع وبشار بن برد وهذا الأخير يدفع الفتاة للخبائث دفعاً في شعره بما تدمع له عيون الشرفاء، ممّا جعل الوعاظ الذين كانوا في بلدته يصرخون به ويستنصرون بالمهدي ليوقف هذه الجرائم وكان منه أن شنَّ حملة على الزنادقة والماجنين ليطهّر المجتمع من فسادهم.
الغزل بالغلمان
في خضم هذه البيئة الفاسدة أشاع المجان والفساق من هذا المجتمع نوعاً جديداً من الغزل الخبيث وهو الغزل بالأطفال الذين كانوا يُقدمون لهم الشراب والخمر، وأوّل من أظهره هو والبة بن الحباب، وهو يحمل وزر فساد أبي نواس وشعراء العصر الماجنين وكلهم.
ساعد في ظهور هذا الضرب من الخباثة التي تسقط الرجولة تخنث الفتيان، حيث كانوا يلبسون لباس النساء، وترجل الفتيات حيث كنّ يلبسن لباس الرجال، وكان المُغنون يتشبهون بالنساء في لباسهن وحركاتهن.
أثر اللهو والمجون على الحياة في العصر العباسي
أثرت هذه الموجة على الحياة في كافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن تأثيراتها ما يأتي:
- كانت المسمار الأوّل الذي يدق نعش الدولة العباسية حيث بدأت الدولة بظهور أمارات الضعف عليها.
- أسقطت هيبة السلطان من نفوس الناس.
- استنزفت خزينة الدولة على الجواري وأنواع الملاهي.
- أدّت إلى فساد أخلاق المجتمع.
- تفاوت الطبقات الاجتماعية حيث كانت هنالك طبقات تنعم بالترف الباذخ، وطبقات تعيش في الفقر الشديد.