نظرية المعرفة
التعريف بنظريّة المعرفة وأبعادها الفلسفيّة
يجتهد الانسان ؛ لاكتساب المعرفة، فيراكمُها، ويُنميّها، ويسعى؛ للاستزادة منها كلّما لاحت له الفرصة لذلك، حيث إنّ هناك من يتعمَّق في فَهم حقائق الأشياء، ويبحث خَلف مُسبِّباتها، ونشأتها، ومآلاتها، وهناك من يكتفي بمعرفة عامّة، دون الغوص في أعماق بَحر العِلم، فالفلسفة من العلوم العميقة التي يبحث صاحبها من خلالها في دقائق الأمور، ويُفتِّش عن البُؤَر التي تحمل في طيّاتها علامات الاستفهام الكُبرى، ويأخذ على عاتقه حَلّها، والإجابة عن استفساراتها، ومن تلك العلوم الفلسفيّة نظريّة المعرفة التي نحاول عَرض جزء منها في هذا المقال، حيث بحث الفلاسفة فيها عن كيفيّة معرفة الأشياء، والأمور التي تقود إلى تحقيق المعرفة، وفي ما إذا كان الشكّ طريقاً للمعرفة، أم لا، وتحديد مصادر، ومُحدِّدات المعرفة البشريّة، وغيرها من الأمور الفلسفيّة المُتعمِّقة.
يُطلَق على نظريّة المعرفة اسم (Epistemology)، وهي كلمة مُشتَقّة من اللغة اليونانيّة التي تُشير في معناها إلى المعرفة ، وقد تمتَّعت (نظريّة المعرفة) باهتمام بالغ من الفلاسفة، وحَظِيت بمكانة تُخوِّلها لأن تكون من ضمن أهمّ أربع مجالات فلسفيّة تدارسَها العلماء ، وهي على مدى تاريخ طويل، وحافل، تبحث في ما وراء ظاهر المعرفة الإنسانيّة، فعلى سبيل المثال، إذا تمّ وَضع عصا مستقيمة في الماء ، فإنّها ستبدو وكأنّها مُنحنِية؛ بسبب انكسار الماء، وعندما تكون العصا خارج الماء، فإنّها ستبدو صلبة، ومستقيمة مُجدَّداً، ونظريّة المعرفة هنا تبحث فيما إذا كانت العصا فعلاً لا تنحني في الماء؟ وهل ما نراه من استقامة العصا خارج الماء هو دليل كافٍ؛ لإثبات عدم انحنائها بفِعل الماء؟ وهل الرؤية أصلاً تُعتبَر دليلاً مُعتبَراً؛ لإثبات الحقائق، أم يجب دعمها بالحواسّ الأخرى؟ وإلّا، فإنّه لا بُدّ من البحث عن الدلائل الأكثر موثوقيّة؛ لإثبات الحقائق من خلالها.
تكمن أهمّية نظريّة المعرفة التي تهدف إلى تحقيق الوعي اللازم؛ لفهم المعارف ضمن إطار الواقع، والبراهين؛ فالمعرفة بالشيء تقتضي التيقُّن به، وإزاحة الشكوك عنه؛ حتى يصل صاحبه إلى إدراك حقيقته، ويُؤسِّس ما يُسمّى بالنموذج المَعرفيّ عندما يصبح مصدر المعرفة مُؤكَّداً، ومُثبَتاً، كأن نقول: إنّ النموذج المعرفيّ الإسلاميّ يتبدّى بكون إجابة التساؤُلات تعود إلى أساس واحد، وهو الوحي، والشريعة، وبذلك يكون النموذج المعرفيّ قد تأسَّس بتوحيد مرجعيّة المصادر المعرفيّة التي يكتسبُها الإنسان، أو يبحث عنها.
نبذة عن المدارس الفلسفيّة في نظريّة المعرفة
اختلفت اعتقادات الفلاسفة حول المعرفة؛ حيث توصَّل الاعتقاديّون إلى أنّ الإنسان يمكن أن يعرف، ولكن بدرجات مُتفاوتة بين البشر، وهذا هو مذهب التيقُّن في الفلسفة، وعلى النقيض من ذلك، اتَّخذ أصحاب مذهب الشكّ الرأيَ بإنكار مقدرة الإنسان على المعرفة في ظلّ تعميم حالة الشك، وحيلولتها دون معرفة الإنسان، أو إدراكه لأيّ شيء، حتى وإن كان عن طريق حواسّ الشخص نفسه، أمّا أتباع المدرسة السفسطائيّة، فقد اعترفوا بمعرفة الإنسان المُكوَّنة من خلال الحواسّ الخمس فقط، دون اعتقادهم بأنّ هناك حقيقة مُطلَقة، وفي ما يتعلَّق بأصحاب مذهب الاحتمال، والترجيح، فإنّ مقاييس إطلاق الحقائق، وتثبيتها بشكل كُلّي ما تزال في تسييد لدور الترجيح، وغالب الظنّ ، دون القَطع بوجود اليقينيّات.
أمّا المنهج الإسلاميّ، فقد تعامل مع نظريّة المعرفة بإنكار وجود الشكّ المُطلَق في كلّ شيء، وأثبت وجود الموجودات الفعليّ وِفق عالَم الشهادة، حيث يشمل الموجودات الطبيعيّة في الحياة، وعالَم الغيب ، حيث الموجودات تكون فيما وراء الطبيعة، وقد اتَّجهت بعض الفِرَق في التاريخ الاسلاميّ نحو تأييد الشكّ المَنهجيّ؛ فالمُعتزلة مثلاً يتَّخذون من الشكّ مُنطلَقاً؛ للوصول إلى المعرفة اليقينيّة، حتى في معتقداتهم التي يرون أنّهم يصلون إليها بالشكّ فيها، وهناك مَن هذَّب اعتقاده بالشكّ المنهجيّ، كأبي حامد الغزاليّ الذي اعتبرَ أنّ الشكّ المَنهجيّ ضروريٌّ في الوصول إلى الحقائق، إلّا أنّه حَصَره في شواهد الحواسّ، وكلام العلماء، والفلاسفة ، دون شَكّه في مُعتقداته، أو إيمانه، وتوحيده.
مصادر المعرفة
تتشكَّل قناعات الإنسان وِفقاً لمجموعة من المُؤثِّرات المُتشابِكة؛ فهناك رغبات، واحتياجات الإنسان التي تُعتبَر كمُؤثِّرات في مجموعة من العوامل النفسيّة، إلّا أنّها -وإن صحّت- لا ترتقي لأن تصبحَ مصادر للمعرفة؛ فمصادر المعرفة تحتاج أن تستند إلى موثوقيّة مُعتبَرة؛ حتى يتمكَّن الإنسان من اعتبار القناعات التي يعتقدها على أنّها معرفة، فهي بحاجة ماسّة لمصادر مُمتازة، كالإدراك الحسّي، والتقييم الذاتيّ، والذاكرة الثاقبة، والعقل الناضج، وفيما يأتي توضيح لمصادر المعرفة:
الإدراك الحسّي
تُستخدَم الحواسّ الخمس؛ لإدراك الموجودات الحسّية ، حيث يتمّ تأكيد هذه الموجودات كلّما اشترك في إدراكها عدد أكبر من الحواسّ، إذ إنّه في المواقف الملموسة، تُعَدُّ رؤية فنجان القهوة على الطاولة إدراكاً بصريّاً، ويمكن أن تُؤكِّد هذا الإدراك حاسّة شمّ رائحة القهوة، بالإضافة إلى لَمس الفنجان، وتذوُّقه، وبذلك تُدرَك الموجودات الحسّية، ويُوثَّق وجودها، أمّا ما يرتبط بالإدراك الذهنيّ، أو المعنويّ، فهو مُرتبط ببعض المشاعر، والقناعات، وهنا يتوثَّق هذا الإدراك بضمان سلامة العمليّات الذهنيّة، ورجاحة العقل، والمنطق ، والإنصاف، والذاكرة .
التقييم الذاتيّ
هو مراقبة الشخص لذاته، وتقييم ما يصدر عنه من أحكام، وقرارات ، وقناعات تُترجَم إلى أفعال، وأقوال، ومجموعة من ردّات الفعل، ولكونه مصدراً يتعلَّق بذات الشخص، فهو أوضح من الإدراك كمصدر للمعرفة؛ لأنّ الحُكم فيه يتَّحد بين الواقع، والظاهر منه، دون وجود مجال للشكّ، أو التأويل في حقيقة ما يُرى، أو يُلمس؛ لأنّه في حقيقته حُكم يتعلَّق بما يشعرُ، أو يُفكِّر فيه الشخص، بينه، وبين ذاته، فليس لأحد أن يُشكِّك في ذلك، إلّا إذا سانده بوجود خلل إدراكيّ، أو عقليّ، كالهذيان، أو التوهُّم.
الذاكرة المُثبَتة
إنّ استحضار المعرفة المُكتسَبة في وقت مضى، وإعادة تذكُّرها، من حقائق معرفيّة سابقة، أو أحداث قد مضت، يُعَدُّ نشاطاً ذهنيّاً يمكن تمييز حقيقته، وإمكانيّة اعتباره مصدراً معرفيّاً، وهنا موضع الجَدل بين الفلاسفة، حيث يتمثَّل بالاعتقاد بأنّ الذاكرة هي مصدر المعرفة الموثوق عن الماضي في الحقيقة.
التبرير البديهيّ
وهو أن يكون للقناعة، والمعلومة ما يُبرِّر وجودها، ويُؤكِّد ثبوتها؛ حيث إنّ هناك ما يمكن تبريره باستخدام العقل ، فيكون التبرير حينها بديهيّاً؛ للارتباط الذي لا ينفكُّ حينها بين السبب، والنتيجة، خاصّة في ما يتعلَّق بالحقائق المفاهيميّة، في الرياضيّات ، والمنطق، والهندسة ، وهناك تبريرات تُساق على إثر تجارب عمليّة محدودة النطاق، بحيث لا ترتقي إلى موازاة اعتماد التبرير البديهيّ للحقائق المفاهيميّة.
الأدلّة والشهود
تعتمد موثوقيّة الأدلّة التي يتقدَّم بها الشهود لحادثة ما على قوّة موثوقيّة الأساس الذي استندوا إليه؛ لرواية ما شهدوه؛ فالأخبار اليوميّة التي تتناقلُها وكالات الأنباء ، والصُّحُف، والقنوات إنّما هي أنباء تَرِدُهم ممّن شَهِد الحادثة، وبالتالي وثَّقَ حدوثها بروايته، أو نَقله لمُجرَياتها، ويبقى السؤال: هل تُعتمَد هذه الشهادات، والأدلّة كمصادر معرفيّة مُعتبَرة؟ هناك من يرى أنّنا بطبيعتنا نعتبر أنّ مصادر تلك الشهادات موثوقة، وهناك من يعتقد أنّ المرء يُكوّن مجموعة من المعايير التي يضبطُ، ويُميِّز بها موثوقيّة الأدلّة، والشواهد الواردة إليه، بالاعتماد على تجاربه، وبحثه، وتَحرّيه فيها؛ ولذلك يعرض أيّة أدلّة، أو شواهد على تلك المعايير؛ ليختبرَ موثوقيّتها، وبالتالي اعتمادها كمصدر معرفيّ على نطاقه الشخصيّ، والخُلاصة أنّه ينبغي بالمُحصِّلة أن يكون للثقة بمصادر الشهادات ما يُبرِّرها منطقيّاً، وموضوعيّاً، دون تحيُّز، أو مُحاباة، أو تضليل.
مفهوم النموذج المعرفيّ
يشتمل النموذج المعرفيّ على نظرة فلسفيّة واسعة تشمل الكون، والإنسان، والحياة، والطبيعة، وقد ارتبطت النماذج المعرفيّة بمنظومة قِيَميّة تضبط اختلافها، وتُميِّزه؛ فالنموذج المعرفيّ الغربيّ يتبع القِيَم المادّية التي تقتضي خضوع الطبيعة للإنسان، بزَعمهم أنّ معرفة الإنسان تُؤهِّله للتحكُّم بكلّ ما يتّصف بأنّ له بُعداً مادّياً، حيث إنّ كلّ شيء قابل للتجربة، وهذا يفرغ الأشياء، والحقائق من قِيَمها المعنويّة المُعتبَرة، أمّا النموذج المعرفيّ الإسلاميّ فلا يفصل بين قيمة الشيء، وحقيقته، بل يتعدّى ذلك؛ ليُضفيَ بُعداً أخلاقيّاً في تعامل الفرد مع الموجودات؛ إذ يتمحور أساس هذا النموذج على مركزيّة الوحيّ، والشريعة، والاعتقاد بأنّ الله هو الحقيقة المُطلَقة الوحيدة، دون إغفال لدور العقل، أو تغييب له، فقد تمّ توظيفه؛ للاستنباط، والاستدلال، والتفكُّر؛ حتى يُبنى عليه العمل في مختلف الظروف، وقد رعته ضوابط الشريعة الثابتة، وأتاحَت له المجال لأن يستثمرَ عمله، وفِكره، وسَعيه في الدُّنيا؛ لينال به ما أخبر به الوحي عن اليوم الآخر، وبذلك يكون العقل أداة؛ لتفعيل الإيمان بالعمل، ومشكاة يستنير بها صاحبها، وسواه.