من هم علماء التاريخ؟
من هو عالِم التاريخ؟
إنّ علم التاريخ علمٌ نفيسٌ قد حمله لنا علماء أكابر قد بذلوا في ذلك عزيز أوقاتهم وكثير أعمارهم، ولم يكترث واحدهم بصحته أو حياته في سبيل أن يُبلِّغ من بعده من الأمم والحضارات والبشر ما كان من حال المتقدمين، فأرّخ لنا ما كان مجهولًا غامضًا فجعله معلومًا جليًّا عند العالم والجاهل، والكبير والصغير.
إنّ الوُلوج في الكلام على عالِم التاريخ يلزم منه لزومًا أصوليًّا أن نعلم ماهية علم التاريخ، فالتاريخ لغة كما عرَّفه ابن منظور هو: "تعريف الوقت، وهو مأخوذ من الجذر اللغوي أرخ، يُقال: أرَّخ الكتاب ليوم كذا أي وقّته".
أمّا في الاصطلاح فقد تعدّدت تعاريف العلماء واختلفت، ويرجع ذلك لاختلاف زاوية النظر إلى المعرَّف؛ ف الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي قد عرّف التاريخ بقوله:
" هو التعريف بالوقت الذي تُضبَط به الأحوال، من مَولِد الرّواة والأئمة ووفاةٍ وصحةٍ، وعقل وبدن، ورحلة وحج، وحفظ وضبط، وتوثيق وتجريح، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة من ظهور ملحمة، وتجديد فرض وخليفة ووزير وغزوة وملحمة وحرب وفتح بلد، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق وقصص الأنبياء وغير ذلك من أمور الأمم وأحوال القيامة ومقدماتها ".
فإنّ الجلي الظاهر من كلام الحافظ أنه يرى علم التاريخ لا يتعدّى أن يكون نقلًا للأخبار- ولو اختلفت حيثيات النقولات من غير أن نتعرّض لتفسيرها، ولكننا نجد من المعاصرين من اعترض على ذلك، كسيد قطب، فهو يقول: "التاريخ ليس هو الحوادث إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان".
الجواب عن هذا الذي ظاهره التعارض أن يُعلَم أن الوصول إلى تعريف علم التاريخ يكون من خلال معنَيَيْن اثنين، وبيانه أن هذا التعريف يتجاذبه معنى ظاهر ومعنى باطن؛ فأما الأوّل فهو ما نظر إليه الحافظ السخاوي ومن وافقه، وأما الثاني فهو ما نظر إليه سيد قطب ومن وافقه..
ومن هنا نفهم دقة ابن خلدون -مؤسس علم الاجتماع- حينما تعرّض لتعريف علم التاريخ فقال: "إن التاريخ -في ظاهره- لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظرٌ وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعِلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق".
فالمعنى الباطن هو الآلة المُعِينة لجني ثمار علم التاريخ وهي ناضجة لذيذة الطعم غنية النفع، وقد جمع لنا القرآن الكريم بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن لعلم التاريخ، ولا ننسى أنه أشار لثماره أيضًا؛ فقد أخبرنا عن أحوال الأمم السابقة والملوك والدهور من وجه، وقد أمر بالتفكر والتعقل في تلك الأخبار والأحوال من وجه آخر؛ فهذان هما المَعْنَيان المتقدمان.
وأما ثمرة هذا العلم فهي معلومة ممّا حاصله في كتاب ربنا جلّ وعلا أنّه ينبئك كيف كان الناس وكيف صاروا، وكيف كان حال الظلمة وكيف كانت عاقبتهم، وكيف كان حال أهل الصلاح والعدل وكيف كان جزاؤهم، فتسبتصر طريق الحق وتتجنب طريق الباطل، وتقيس الحاضر على الغائب، فينقدح في داخلك زِندان؛ زِند الحكمة وزِند العقل والفِقه،
ومن بديع ما يُقال في هذا ما قاله لسان الدين بن الخطيب:
وبعدُ فالتاريخُ والأخبارُ
- فِيهِ لنفسِ العاقِلِ اعْتِبَارُ
وفِيهِ للمُسْتَبْصِرِ اسْتِبْصَارُ
- كيفَ أتَى القَوْمُ وكيفَ صارو
يُمْضِي على الحاضِرِ حُكْمَ الغائِبِ
- فَيُثْبِتُ الحقَّ بِسَهْمٍ صائِبِ
ويَنْظُرُ الدنيا بعينِ النُبْلِ
- ويَتْرُكُ الجهلَ لِأَهْلِ الجهلِ
إذا تقرّر هذا فإنّ عالِم التاريخ يُسمّى في الاصطلاح مُؤَرِّخا، ثم لنا هنا وقفة نتساءل فيها ثم نجيب؛ هل علم التاريخ أوجدَ المؤرخ؟ أم أنّ المؤرخ أوجد علم التاريخ؟ والحق الذي يجب المصير إليه أن بينهما تلازمًا؛ فإنّ التاريخ من حيث هو موجود سواء وُجِد المؤرخ أم لم يوجَد، ولكن شرط وجود التاريخ وجودًا علميًّا ظاهرًا للعيان- حسب ما تقدم من تعريفات- مرتبط بوجود المؤرخ، كما أنّ المؤرخ ما كان وجوده لولا التاريخ، مع كونه -أي التاريخ- ضرورة وجوديّة لا يُمكن تخيُّل عدمها.
أبرز علماء التاريخ الغربيين
إنّ الإنصاف يقتضي أن نُقِرَّ بالنبوغ العِلميِّ التاريخيِّ عند الغربيين، وقد برز منهم عدد لا بأس به، ونذكر منهم:
هيرودوت
وهو مؤرخ يونانيٌّ، يتألف اسمه من كلمة هيرا وكلمة دوت، فأما الأولى فهي معبودة اليونانيين المعروفة، وأما الثانية فهي بمعنى أهدى، فصار المعنى: هدية هيرا (6)
وهو ابن رجل اسمه لكسيس، وابن امرأة اسمها ريو، وقد وُلِد بين (480) و(490) قبل الميلاد في إحدى بلدات جنوب غرب آسيا، واسمها هو هاليكارناسوس، وقد توفي -كما يُقال- عام (484) قبل الميلاد، وقد نشأ مُحِبًّا شَغوفًا بالقراءة والاطلاع والبحث، لا سيما الأشعار والأدب والملاحم كما هي حال أسرته، وقد كانت الفُرْس قد غزت اليونان في تلك الحقبة، فَعَرَكَ هيرودوت هذه الأحداث وعايشها، لذلك نجد فيه رُوح الثَوْريّة.
ممّا ميّز هذا المؤرخ أنّه اختص بِلَقَب لم يُعرَف به أحدٌ قطّ، سواء أكان ذلك قبل مجيئه للدنيا أم أثناء حياته أم بعد مماته، وهو لقب "أبو التاريخ"، كيف لا وهو أعظم يونانيٍّ قد أرّخ، وأوّل رجل ينتهج النهج النَثْري الأدبي الفني في أوروبا، وقد اعتبره بعضهم أنه أوّل من قَعّد لمُهِمّة المؤرِّخ، وهي السباحة في بحر حياة الإنسان الماضوية ثم التعبير عن بنائها.
ولكونه يونانيًّا فقد كان أول ما بدأ به في تأريخه هو الاقتتال والصراع الحاصل بين اليونان والشرق، لا سيما الحروب الشهيرة الكبيرة بين أبناء جِلدَته وبين الفرس، وقد كان رحّالة واسع الأُفق في رحلاته؛ فقد ولج ليبيا التي كانت تُعرَف بشمالَي إفريقيا، وكذلك ما وراء النهرَين، وهو ما يُعرَف اليوم بالعراق، وقبل كل هذا لا ننسى مِصر، وقد وصلت به هِمّته إلى شمالَي البحر الأسود، وهو ما يُعرَف اليوم بأوكرانيا.
ممّا نستعرضه من تدويناته التاريخية المومياء؛ فقد وصفها وصفًا سهلًا مُيسّرًا يُمكن من خلاله أن يجعل الغائب حاضرًا، وقد وصف لنا -أيضًا- قومًا من آسيا الوُسطى يُعدّون رحّالة تاريخيين، وكانوا معروفين بالنسبة لليونان باسم "السقوثيين"، وقد نزلوا ما يُعرَف اليوم بأوكرانيا، وقد استطاع أن يسرد لنا وصفًا الحياة في الهند.
أمّا وصفه للهند فقد أثار جدلًا واسعًا عند المحققين، وذلك لأنه لم يُعرَف قطّ أنه زار الهند، هكذا هو تقرير كلامهم، والرد على هذه الدعوى أن يُعلَم أن من الأصول المهمة في علم التاريخ -كما يعلم أهل هذه الصنعة- عدم اشتراط الزيارة فيما يُتكلّم عنه بل يكفي في ذلك سؤال الثقات.
تاسيتوس
وهو مؤرخ روماني وُلِد عام (55) وتوفي عام (120) للميلاد، وقد تقلّد منصب رئيس القُضاة، لا نعرف عنه ترجمة شاملة واعية، ولعل أهم أسباب ذلك أنه لم يصلنا من مؤلفاته شيء سوى كتابين اثنين، ولَيْتَهما وصلا كاملين، هما الحوليات والتواريخ.
كانت حياته المهنية في القانون والسياسة زاخرة كما يصف بعض الباحثين، فقد عمل كقائد فيالق، وتم تعيينه في مواقع مدنية متعددة، وقد درس هذا المؤرخ الروماني حِقبة من حِقب بني أصله، وهي حقبة الأباطرة، وقد بسط ذلك بسطًا طيّبًا في كتابه الحوليات، وقد ذهب بعض النُّقّاد إلى أن هذا الكتاب هو أَجَلُّ كتبه.
روى لنا هذا المؤرخ أحداث سقوط آخر حُكّام الرومان من ذوي سلالة اليوليوكلودية واسمه نيرون، وقد أرّخ لِما كان من حال تاسع إمبراطوري روما صاحب اسم فسبازيان، وقد بسط الكلام في تاريخه على حكم عائلة فلافيان، ومما ميز أسلوبه في رواية التاريخ أنه من أبناء العصر الفِضي المتعلق بالأدب اللاتيني.
ليفي
مؤرخ روماني يقال له أيضًا ليفيوس، وُلِد عام (59) قبل الميلاد وتوفي عام (17) للميلاد. وقد وُلِد في إيطاليا من الشمال منها في بادوا، ولم يصلنا شيء ذو بال عن ترجمته الشخصية، عاصر حقبة الإمبراطور الروماني أغسطس، وكان يجمع بينهما علاقة صداقة طيّبة، ولم يكن ذلك مؤثّرًا على الاستقلالية التاريخية التي كان يتمتع بها ليفي، وقد ألّف كتابًا سمّاه التاريخ منذ تأسيس المدينة، وقد جمع فيه تاريخا متينا يصف فيه ما كان منذ أن قام أول حجر لدولة روما إلى عام (9) قبل الميلاد.
ديفيد هيوم
مؤرخ اسكتلندي وُلِد عام (1711) للميلاد شمال بريطانيا حيث هي اسكتلندا، وتوفي فيها عام (1776) للميلاد، وقد كان يعمل أبوه في سلك القانون، وقد وافته المَنيَّة وهو ابن ثلاث سنوات فكفله عمه.
درس الفيزياء والفلسفة، ولعل أكبر سبب -فيما يذكرون- قد جعله مؤرخًا أنه قد رُفِض من جامعة غلاسكو، فتقدم لجامعة أدنبرة فتمّ قبوله، فعكف على الكتب والسجلات والوثائق الموجودة في مكتبة الجامعة، ممّا أهّله لتأليف كتابه التاريخي المعتني بتاريخ إنجلترا خصوصًا، ولكنه انتهج نهجًا لم يكن معروفًا، وهو السرد العكسي، أي: يسير بك من الأحداث المتـأخرة إلى الأحداث المتقدمة.
ستيفان زويج
مؤرخ وكاتب نمْساوي، من ذوي الأصول اليهودية، وُلِد عام (1881) للميلاد في فيينا وتوفي عام (1942) في البرازيل، كان أكثر تاريخه محصورًا بالسير الذاتية عمن تقدّمه، لذلك لم تقع له شهرة كمن تقدم ذكرهم من المؤرخين الغربيين.
لقد عمل على جمع المخطوطات والترجمة مما ساهم في بنائه كرجل مؤرخ، ومما يجدر ذكره أنه كان ناشطا متحمسا يسعى بكل ما أوتي من عزم وإرادة إلى التوحيد الروحي لأوروبا. كان الأدب والشعر يشغلان حيزا كبيرا في حياته؛ فجعل مجموعة شعرية سماها "سلاسل فضية"، وله مؤلفات أخرى نذكر منها: مسرحية جيريمي، السيرة الذاتية لماري أنطويت، ورواية لاعب الشطرنج.
أبرز علماء التاريخ العرب
إنّ العرب قد برعوا في علم التاريخ لكونه أعظم العلوم عندهم، ونذكر من أبرزهم:
عروة بن الزبير
هو عروة بن الزبير بن العَوَّام الأَسدي القُرَشيّ، وُلِد عام (23) للهجرة في المدينة المنورة وتوفي فيها عام (96) للهجرة، وهو تابعي جليل استحق أن يكون ممن يُطلَق عليهم اصطلاحًا "أحد الفقهاء السبعة"، وخالته هي أم المؤمنين عائشة الصِّدِّيقة الصدِّيقيَّة -رضي الله عنها-، أخذ عنها كل علم تحمله، فأخذ منها الفِقه وعلم الأنساب والأخبار، ولا عجب، فأبوها هو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أعلم العرب بالأنساب، والنّسابة عادة يكون عالما بالتاريخ والأخبار، فاستحق عروة أن يكون مؤرِّخًا فَحلًا.
عدَّه كثير من علماء المسلمين أول مُصنِّف في تاريخ مغازي الدولة الإسلامية، وممّن نص على ذلك الإمام الواقدي، ولا يُعلَم خلاف في ذلك بين المسلمين، وممّا يحسُن الإشارة إليه أن طريقة عروة في التصنيف قد كانت مختلفة عما عهدناه عند المعاصرين اليوم وعما عهدناه عن الغربيين؛ فإنه كان ذلك على منهج الرِواية الحديثيّة، رجلًا عن رجل!
الإمام الطبري
وهو محمد بن جَرير صاحبُ كنية أبي جعفر، وُلِد عام (224) للهجرة في طَبَرستان، ورحل إلى بلدان كثيرة كالكُوفة والبَصْرة والفسطاط، وتوفي عام (310) للهجرة في بغداد،
وهو مؤرخ فقيه مُحدِّث، من أبرز كتبه في علم التاريخ كتابه "تاريخ الطبري"، قد جمع فيه ما لا تقدر عليه الهمم اليوم، وهو أول كتاب مرجعي يُفزَع إليه عند طرق باب التاريخ.
بيّن في مقدمة كتابه المنهج الذي يقصده من كتابة التاريخ فقال: " وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتدأ ربنا جل جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم، من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل، أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف ".
الذهبي
وهو شمس الدين الذهبي، وُلِد عام (673) للهجرة، وتوفي عام (748) للهجرة، لُقِّب بالذهبي نسبة لأبيه الذي كان يتميز بصناعة الذهب، لقد طوّف مؤرخُنا على البلدان الشامية خصوصًا، فكان من ذلك نابلس والرملة وحلب وحماة والقدس، من أعظم مؤلفاته التاريخية كتابه المشهور "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام"، وإنما أرَّخ فيه منذ الهجرة النبوية إلى سنة (700) للهجرة، وقد أبرز منهجه في مقدمة كتابه، بل قد جلّى لنا من أين أتى بهذا العلم التاريخي الغزير، وكله منصوص عنده.
ابن كثير
وهو أبو الفِداء إسماعيل بن عمر بن كَثير، وُلِدَ عام (701) للهجرة في دمشق، وتوفي فيها عام (774) للهجرة، له مؤلفات كثيرة أبرزها: كتابه التاريخي الذي سمّاه "البداية والنهاية"، وقد أرّخ فيه منذ بداية الخلق إلى القرن الثامن الهجري، فاستوعب علمًا غزيرًا وأحداثًا غزيرة، ولعل أكثر شيء أسهم في بناء العلم التاريخي عند ابن كثير كثرةُ شيوخه الذين أخذ عنهم.
خلاصة
إذا ثبت هذا فإننا قد قررنا أن التاريخ علم، وكل علم له منهجياته التي يسير عليها ليصل لرتبة العالم في ذلك الفن المُعَيَّن، والمُحَقِّق في حال المؤرخين يجد أنهم جميعًا قد اشتركوا في خصيصة مهمة غاية الأهمية، ألا وهي سعة الاطلاع والقراءة وربما الترحال، وإن المُنصِف المتَجَرِّدَ قد يستطيع المقارنة بين المؤرخين الغربيين والمؤرخين العرب، فالمؤرخون العرب قد حُفِظ نَتاجهم العلمي التاريخي، وقد تابعهم عليه تحقيقًا وتنقيحًا من بعدهم من علماء دينهم وجِلدتهم، فلذلك نجد علمًا مدوّنًا كابرًا عن كابرعلى خلاف الغربيين.