من حامل اللواء في غزوة أحد
حامل لواء المسلمين في غزوة أحد
إنّ حامل لواء المسلمين في غزوة أحد هو مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، حيث ثبت في حمل الراية في المعركة، فأقبل عليه أحد فرسان الأعداء الذي يُدعى ابن قمئة، فقطع يده اليمنى بضربة، ولكنَّ مصعباً -رضي الله عنه- كان ثابتاً ويقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، وبقي يحمل اللواء بيده اليسرى، فهجم الفارس على يده اليسرى فقطعها، فضمّ مصعبٌ اللِّواء بعَضُدَيه إلى صدره وهو يقول أيضاً: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، فضربه الفارس ضربةً ثالثةً بالرّمح، فوقع مصعب بن عميْر وسقط اللواء، فقام أبو الروم بن عمير وأخذ اللواء، وبقي في يده حتى دخل المدينة بعد انصراف المسلمين، ونقل محمد بن عمر عن أبيه أنّه قال: إنَّ الآية التي كان يردّدها مصعب رضي الله عنه- لم تكن قد نزلت بعد، حتى جاء في بعض الروايات أنَّ مصعباً قد أُيِّدَ بمَلَكْ.
وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه-: (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حينَ انصرفَ من أُحُدٍ، مرَّ على مُصعبِ بنِ عُميرٍ وهو مقتولٌ، فوقفَ عليهِ ودَعَا لهُ ثم قرأَ: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً)، ثمَّ قالَ: أشهدُ أن هؤلاءِ شهداءٌ عندَ اللهِ فأْتُوهُمْ وزُورُوهُم، والذي نفسي بيدِهِ لا يُسَلِّمُ عليهم أَحَدٌ إلى يومِ القيامةِ إلا رَدُّوا عليهِ)، وقد نقل ابن عبد البرّ -رحمه الله- اتّفاق أهل السِّيَر على أنَّ حامل الراية في غزوتي بدر وأُحد هو مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، وقد قُتل مصعب يوم أُحُد على يد ابن قمئة الليثي الذي قتله وهو يظن أنَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حتى أنَّه رجع إلى قريش وأخبرهم أنَّه قتل محمّداً، وكان عُمر مصعب عندما قُتل أربعين سنة أو أكثر بقليل، وقيل إن قوله تعالى-: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ)، نزلت به وبأصحابه، وقد أعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الراية بعد استشهاد مصعب إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ورجالٍ من المسلمين.
إسلام مصعب بن عمير
كان مصعب بن عمير -رضي الله عنه- من السّبّاقين إلى الإسلام، فقد قال أبو عمر إنَّه قد أَسلمَ قديماً عندما كانت الدعوة في مرحلتها السريّة الأولى، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجتمع مع من أسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكَتَم مصعب -رضي الله عنه- إسلامه خوفاً من أمّه ومن قومه، لكنَّ عثمان بن طلحة كَشَف خبر إسلامه وأخبر أهله؛ فحبسوه، وبقي محبوساً إلى أن هرب عندما هاجر المسلمون إلى الحبشة ، ثمَّ رجع إلى مكة المكرّمة وهاجر مع المسلمين إلى المدينة المنورة بعد بيعة العقبة الأولى لِيُصلّي بالناس ويُعَلِّمهم القرآن الكريم، فكان هو وابن أمّ مكتوم أول من قدم المدينة المنورة لتعليم النّاس القرآن.
وقد كان مصعب بن عمير -رضي الله عنه- من الشّباب المُترف المنعّم بين أهله وأفراد قبيلته قبل الإسلام، لكنّّه استطاع بعقله المنير وبصيرته الثّاقبة التمييز بين الحقّ الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- والذي يوافق الفطرة السليمة ولا يُخالف العقل، وبين ما كان يعيش عليه قومه من الضلال والباطل، فدخل في الإسلام بقرارٍ من نفسه دون أن يدعوه إلى ذلك أحد، وكان من أوائل المسلمون الذين كانوا يجتمعون مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم بن أبي الأرقم سراً، لأنَّه يعرف كغيره من الصحابة أنَّ من يُغيّر دينه عن دين قومه سيتعرّض للعذاب والأذى، فكان يذهب لتعلّم دينه خلسةً عن أنظار المتربّصين له ولأمثاله من كفّار قريش، فكان في هذه الفترة من أعلم الصحابة -رضي الله عنهم-، وهذا ما أهّله ليختاره الرسول -صلى الله عليه وسلم- للذهاب إلى المدينة المنورة لتعليم الأنصار القرآن الكريم ، والعلم الشرعي، لكنَّ مصعب -رضي الله عنه- تعرّض خلال حياته لأنواعٍ من الأذى والتعذيب بسبب إسلامه، ومنها ما يأتي:
- الإيذاء المادي: حيث قُطعت عنه جميع الموارد المالية التي كان يحصل عليها قبل الإسلام، وكل ذلك بسبب مقاطعة أمّه له بعد إسلامه، فأخَذَته وحَبَسَته هي وأخوه أبو عبد العزيز بن عمير، وضغطت عليه عندما علمت بإسلامه، فخرجت بغير حجاب، وقالت إنها لن تأكل ولن تشرب وتدَّهِن وتتخمّر وتستظلّ حتى يرجع عن دينه، ونصحها أخوه بحبسه، وقال لها إنَّه سيرجع عن دينه عندما يجوع.
- الإيذاء الجسدي: تعرّض مصعب -رضي الله عنه- إلى الأذى الجسدي بسبب قطع كل شيءٍ عنه من قبل أمّه، فأصبح جسده نحيلاً، وتغيّر لونه، وأصابه الجوع الشديد.
- الإيذاء النفسي: كان مصعب -رضي الله عنه- يرى أمّه وهي تُصارع العذاب لكي تضغط عليه فيرجع عن دينه، حيث كان يتعذّب حين يراها تسقط مغشياً عليها في الشمس، وتنثر شعرها، ويقوم بَنُوها بحشو فمها بالعود والشجر حتى لا تموت.
- الجوع والعذاب في شعب مكة: كان مصعب -رضي الله عنه- من صحابة رسول الله الذين تعرّضوا للأذى والجوع الشديد في حصار شعب مكة، فبعد أن كان مرفّهاً مدلّلاً في مكة وقد قال عنه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "كان مصعب بن عمير أترف غلام بمكة بين أبويه"، تعرّض لذلك الأذى فلم يتحمّل الجوع، حيث كان جلده يتطاير من مكانه، ولا يستطيع أن يمشي.
- الهجرة إلى الحبشة: رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عدم قدرته على الدفاع عن أصحابه -رضي الله عنهم- وما يصيبهم من البلاء والشدّة، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال -عليه الصلاة والسلام- لهم: (إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالْحقوا ببلادِه حتى يجعل اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتُم فيه)، فهاجر عددٌ من الصحابة ومنهم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- خوفاً من الفتنة، وكان ذلك في السنة الخامسة من البعثة النبوية، وأظهروا في هجرتهم عظيم تعاونهم وإيثارهم وتخطيطهم الدقيق لنجاح الهجرة، ثمَّ رجع مصعب -رضي الله عنه- مع المسلمين حين رجعوا، وكان قد تغيّرت أحواله وزاد وزنه، وقد شهد الهجرتين إلى الحبشة، وقال عنه صديقه: "لم أرَ رجلاً قطّ كان أحسن خلقاً ولا أقلّ خلافاً منه".
مصعب بن عمير سفير الإسلام
يُعَّد مصعب بن عمير -رضي الله عنه- أول سفير في الإسلام ، وذلك بسبب رحلته إلى المدينة المنورة معلّماً وداعياً أهلها، وإسلام عددٍ من أهلها على يده، وهم الذين نصر الله بهم الإسلام فيما بعد، وهم أعظم جيلٍ بسبب عِظَم قائدهم ومربّيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد لقّبه أهل المدينة المنورة بالمقرئ، وصلّى الجمعة بالمسلمين فيها قبل قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها، وكان له دورٌ في نشر رسالة الإسلام في المدينة بشكلٍ كبيرٍ جداً، وكُسرت أصنامهم، وأسلم أشرافهم، لأنَّه كان من الصحابة الذين اختارهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الأنصار لتعليم أهل المدينة أمور دينهم بعد بيعة العقبة ، وذكر البراء أنَّ أول من قدِم من المهاجرين مصعب بن عمير، ثمَّ لحقه الصحابة تباعاً، ثمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه-.
وذكر أهل التاريخ اسمه كاملاً فقالوا: هو مصعب بن عمير من بني عبد الدار بن قصي، مهاجري، أولي، وقد روى خبّاب بن الأرت -رضي الله عنه- عن خبر وفاته فقال: (هَاجَرْنَا مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ونَحْنُ نَبْتَغِي وجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أجْرُنَا علَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَن مَضَى، أوْ ذَهَبَ، لَمْ يَأْكُلْ مِن أجْرِهِ شيئًا، كانَ منهمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَومَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا نَمِرَةً، كُنَّا إذَا غَطَّيْنَا بهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وإذَا غُطِّيَ بهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: غَطُّوا بهَا رَأْسَهُ، واجْعَلُوا علَى رِجْلَيْهِ الإذْخِرَ أوْ قَالَ: ألْقُوا علَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخِرِ ومِنَّا مَن أيْنَعَتْ له ثَمَرَتُهُ فَهو يَهْدِبُهَا).
مواقف مصعب بن عمير ودفاعه عن النبي
أبلى مصعب بن عُمير -رضي الله عنه- بلاءً حسناً في معركة أُحد، وقد حَمَل اللّواء في معركة بدر أيضاً، وكان يُقاتل بهمّةٍ دفاعاً عن عقيدته، وعن اللّواء الذي كان يحمله، وقد اختاره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذه المهمّة لأنَّه يتمتع بالثبات والصّدق بالإيمان، والشجاعة في القتال، وخاصةً عندما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفاء المشركين عندما أعطوا الراية لطلحة بن عثمان العبدري، وهو من بني عبد الدّار الذين كانوا يحملون اللّواء في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم- إنّ المسلمين أحقّ بهذا الوفاء، وأعطى اللّواء لمصعب تكريماً له.
وقد اعتقد المسلمون أنَّ معركة أُحد انتهت لصالحهم خاصّة عندما شاهدوا المشركين وهم يَفِرّون ويطاردهم المسلمون ، فطمع المسلمون بالغنائم، وترك الرماة الجبل، ولم يستمعوا لرئيسهم عبد الله بن جُبير -رضي الله عنه-، فاستغلّ خالد بن الوليد هذه الهفوة وخُلُوّ الجبل من الرُّماة، وصعد هو ومن معه من جنود قريش إلى الجبل، وقتلوا من بَقِيَ من الجنود الصامدين من الرُّماة، وكرّوا على بقيّة المسلمين، وانقلبت نتيجة المعركة لصالح قريش، ووقع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحفرة التي حفرها أبو عامر الراهب الذي كان منافقاً، وشُجّ وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكُسِرَت رُباعيته، وجاء أُبيّ بن خلف لقتله، لكنَّ مصعب بن عُمير -رضي الله عنه- أخذ يدافع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويحجب عنه، فقتل رسول الله أُبَيّ بيده، ونزلت عليه لعنة الله.
وروت المجاهدة المؤمنة أمّ عمارة -رضي الله عنها- التي حاربت في غزوة أُحد جزءاً من أحداث ذلك اليوم، حيث كانت من القلّة المسلمة التي بقيت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- تدافع وتذبّ عنه بالسّيف وترمي بالقوس، حتى انصرف الناس وجاء ابن قمئه يريد قتل رسول الله ويقول: "دلّوني على محمد، لا نجوت إن نجا"، وكان مع النبيّ القليل من المسلمين؛ منهم مصعب بن عمير، وأمّ عمارة، فثبتوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واعترضوا ابن قمئة، حتى أنَّ أم عمارة ضربته ضربتين، لكنَّه كان يلبس درعاً، وكان منهم الصحابيّ أبو دجانة -رضي الله عنه- الذي جعل من جسده درعاً لرسول الله، وبقي منحنياً والنُّبُل تقع على ظهره، وظلّ المسلمون يدافعون عن حِمى الإسلام وعن العقيدة بأجسادهم وأرواحهم استبشاراً بالشهادة وطلباً للجنّة ، حتى أنَّ المسلمين الذين انصرفوا عادوا عندما سمعوا بمقتل رسول الله، وآثروا الشهادة من جديد.