مفهوم الوعي في الفلسفة
الوعي في الفلسفة
طُرحت الأسئلة التي تدور حَول طبيعة الوعي، منذ بداية البرية وفجر التاريخ، وغالبًا ما يرتبط بمفهوم الإدراك، والأنثروبولوجيًا أثبتت ممارسات الدفن في العصر الحجري الحديث أنها كانت تعبّر عن معتقدات روحية، ويوجد العديد من الأدلة التي ظهرت منذ فجر التاريخ ودلت على وجود الحد أدنى على الأقل من التفكير التأملي في طبيعة الوعي الإنساني، وتم الاستنتاج أن عصور ما قبل اختراع الكتابة تضمن تجارب روحية، مما يشير إلى درجة من التأمل في طبيعة الإدراك الواعي .
تعد الفلسفة الوعي هو جوهر الإنسان وخاصيته التي تميزه عن باقي الكائنات الحيّة الأخرى، إذ إنّ الوعي يصاحب كل أفكار الإنسان وسلوكه، وهو ما يطلق عليه اسم (الوعي التلقائي) .
كما أنه مرتبطٌ بمجموعة الأحاسيس والمشاعر التي تكمن في أعماق الذات وهذا ما يطلق عليه (وعي سيكولوجي)، ويظهر هذا الوعي في الحياة العمليّة الذي يتجسد على شكل وعي سياسي أو أخلاقي على سبيل المثال، ولا يرتبط الوعي النفسي بالإنسان لوحده بل موجود لدى الحيوان وتتمثل بالعديد من السلوكيات مثل الاتصال واللعب، واستخدام الأدوات.
للوعي مظاهر وأشكال عديدة، بيد أنّ الدراسات النفسيّة والفلسفيّة قامت بوضعه موضع نقدٍ، حيث إن الوعي اعُتبر من خلال تلك الدراسات غطاء خارجي لا يمثل الجهاز النفسي العميق، بل هو يمثل فقط سطح الذات، أما اللاوعي فهو يمثل أعماق الذات الإنسانيّة، بنظرةٍ للوعي من ناحية فلسفيّة فإن الفيلسوف الإنجليزي جون لوك قد ربط حالة الوعي بالحواس الجسديّة الخمس.
آراء الفلاسفة في مفهوم الوعي
ظهرت العديد من الدراسات التي قام بها فلاسفة مختلفين على مدار التاريخ، قدموا من خلالها أبرز النظريات في مفهوم الوعي، ومن أهم هؤلاء الفلاسفة:
الفيلسوف ديكارت
اقترح الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (١٥٩٦-١٦٥٠)م مفهومًا مميزًا للوعي، وعده أساس الفكر البشري، فالوعي بالأفكار هو حالة من إدراك لها، وهو أمر يحدث للإنسان تلقائيًا، عندما يفكر في الفكرة، وتعد نظرية ديكارت حول الوعي من أشهر النظريات، لأنه عمل على تحول في الجانب اللغوي، وأسس فلسفيًا لمفهوم جديد لغةً وعده خاصية للعقل يتمتع بها الإنسان لكونه عاقلًا.
الفيلسوف ديفيد هيوم
يعد مفهوم الوعي عند الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم من أكثر المفاهيم صرامةً، في تاريخ انجلترا، خاصة في القرنين السابع عشر، والقرن الثامن عشر، فقد حاول تأطير المفهوم إيجابيًا، فيمكن فهم الوعي عند هيوم على أنه شكل من أشكال انعكاس معرفة الذات، وهذا المفهوم يظهر جليًا في كتابه الذي يحمل عنوان مقال في فهم الطبيعة البشرية، ولا يربط هيوم بين العقل والوعي على أساس أنهما شكل من أشكال التوافق.
الفيلسوف فرويد
تعد نظرية سيغموند فرويد في الوعي واحدة من أكثر النظريات الغربية شيوعًا، فقد قسّم فرويد الوعي البشري إلى ثلاثة مستويات من الإدراك: الوعي، ما قبل الوعي، واللاوعي، وتتداخل مستويات الوعي مع مدركات الإنسان، ويتوافق كل مستوى من هذه المستويات مع الأفكار المتعلقة بالهو والأنا والأنا العليا .
الفيلسوف جون لوك
كان الفيلسوف البريطاني جون لوك من أوائل فلاسفة القرن السابع عشر اللذين قدموا دراسات خاصة بمفهوم الوعي، فالوعي عند لوك مرتبط بالهوية، وغير مرتبط بالجسد، وهو ما يصل عبر عقل الإنسان وذكرياته، ويؤكد على أن الوعي يظل موجودًا بعد الموت.
الفيلسوف ليبنيز
يعد الفيلسوف ليبنيز من أشهر فلاسفة العصور الحديثة، له العديد من الكتب الفلسفية، قدم ليبنيز نظرية الفكر الأعلى للوعي، التي تقضي بأن ما يجعل حالة الإنسان واعية، هو أنها مصحوبة بفكر أو إدراك الإنسان في تلك اللحظة، ويقول أن الإدراك اللاواعي يصبح واعيًا عندما يكون مصحوبًا بإدراكه.
الفيلسوف ايمانويل كانت
وهو فيلسوف ألماني يعد من أشهر الفلاسفة، وأهمهم على الإطلاق ربط مفهوم الوعي بنظرية المعرفة الكانطية ويعرف الميتافيزيقا على أنها الكشف عن المبادئ الأولية للمعرفة البشرية، والتصورات أو المقولات هي مفاهيم تعمل على تشكيل المعرفة، وتنظمها عقليًا، ولا تغرسها، والوعي هو مفهوم عقلي، ليس للتجارب دور في تشكله، إلا إذا كان هنالك تصورات سابقة في الذهن، فيحدث نوع من التوليف.
لذلك الوعي يمكن تعريفه على أنه نظرية المعرفة الكانطية، القائمة على أساس التمثيل للعالم الخارجي في الذهن، ويعد المفهوم الكانطي للوعي بمثابة ثورة معرفية في تاريخ الفلسفة؛ لما أحدثه من قطيعة مع التيارات الفلسفية السابقة.
الفيلسوف يوهان فريدريك هيربيرت
وهو فيلسوف عاش في القرن الثامن عشر، يعد من مؤسسي علم النفس الحديث، وعلوم التربية، حدد الفيلسوف يوهان فريدريك هيربيرت مبادئ رئيسية للوعي، وهي:
- الملاحظة الذاتية، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة.
- تفسير ما ينتج عن النشاط الشخصي، من ملاحظة الآخرين.
الفيلسوف فرانز برنتانو
وهو فيلسوف عاش في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اشتهر بأبحاثه الفلسفية، وعلم النفس، وهو أول من دشن مفهوم القصدية إلى الفلسفة المعاصرة، واهتم بمفاهيم مثل العقل والميتافيزيقا، والأنطولوجيا، يعتقد فرانز برنتانو بوجود وعي داخلي قادر على فهم جميع الظواهر العقلية المشتركة بين البشر، ويرفض فكرة وجود أفعال عقلية غير واعية؛ لأن الأفعال العقلية واعية بالضرورة، ووفقًا لأطروحته حول وحدة الوعي فإن الإنسان لا يمكن أن يعي أكثر من ظاهرة واحدة في الوقت ذاته، لكن هنالك وحدة غير متزامنة للوعي.
الفيلسوف هنري برجسون
يعد الفيلسوف هنري برغسون من أشهر الفلاسفة المعاصرين، له العديد من الدراسات الفلسفية، كان لأفكاره تأثير كبير على مجريات القرن العشرين والحرب العالمية الأولى والثانية، وفي كتابه الوقت والإرادة الحرة: مقال عن البيانات الفورية للوعي ارتبط مفهوم الوعي فلسفيًا بمفهوم التعددية، فالتعدد الكمي للأشياء ولحالات الوعي، ينتج لنا ذات حرة، بعكس التفسير الكانطي الذي ربط الفعل البشري بالسببية، لذلك اقترح بيرغسون التفريق بين الزمان والمكان لحل معضلة الحرية، وارتباطها بالوعي.
التجارب المخبريّة حول الوعي
يعود تاريخ أول تجربةٍ مخبريّة على ظاهرة الوعي إلى سنة ألفٍ وثمانمئةٍ وتسعٍ وسبعين، وهو تاريخ أوّل أبحاثٍ مخبريّة لعالم النفس الألماني ويلهم ماكس وينديت، ويعد من رواد ومؤسسي علم النفس التجريبي، قام بالعديد من التجارب المخبرية، وكان يهدف من تلك الأبحاث إلى دراسة بنية وتركيبة الوعي، بكل مافيه من عناصر حسيّة وتصوّر وشعور وخيال وذاكرة وحركة وانتباه، من عناصر تعد امتداداً لحالة الوعي، والوعي يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية بالنسبة إلى ويلهم ماكس وينديت، وهي التمثيل، والإرادة، والشعور.
كان يعتمد في تلك الأبحاث على عددٍ من التقارير الناتجة عن تجارب أفرادٍ في حياتهم اليوميّة، وقام العالم الأميركي إدوارد برادفورد تشنر بتطوير هذا النوع من الأبحاث، وتوصّل إلى توصيف بنية العقل عن طريق اعتماده على تلك الطريقة، واستطاع بها تحديد أنواع التذوّق ومناطقها في اللسان، إضافةً إلى تقسيمها لأربعة أقسامٍ هي: الملوحة، والحموضة، والمرارة إضافة إلى الحلاوة، والتجارب النفسية المتصورة مجدية إلى حد كبير في مجال الوعي ولا تقل عن مستوى التجارب العلمية الطبيعية في الطبيعة .
خلاصة
نستنتج أن مفهوم الوعي يعد من أكثر المفاهيم تعقيدًا في تاريخ الفلسفة، وعلم النفس، وذلك لاختلاف توجهات الفلاسفة، لكن التطور الذي قام على يد علماء النفس، وظهور تيار علم النفس التجريبي، كان له دور كبير في محاولة جعل مفهوم الوعي أقرب إلى العلوم الطبيعية، لاعتماد العلماء على المنهج التجريبي، والتجارب المخبرية، بعيدًا عن التأمل المحض.