حركة الترجمة والنقل في العصر العباسي الأول وأثرها على الفكر والأدب والثقافة
حركة الترجمة والنقل في العصر العباسي الأول
أولى الخلفاء العباسيون منذ بداية عصرهم عنايةً شديدةً بالترجمة ونقل علوم ومعارف وثقافات الأمم الأخرى، وأنفقوا الأموال الطائلة في سبيل ذلك، حيثُ كان لكل خليفة عباسي دور كبير في ازدهار حركة الترجمة والنقل، وأبرز الخلفاء الذين اعتنوا في حركة الترجمة والنقل في العصر العباسي الأول فيما يأتي:
عهد المنصور
تُرجمت في عهد المنصور الكتب من اللغات الأعجمية إلى العربية، ومنها: كتاب كليلة ودمنة الهندي الأصل فقد نقله ابن المقفع من الفارسية التي نقلته بدورها من الثقافة الهندية، وفي ذلك إشارة إلى ما كان في الثقافة الفارسية من ثقافة هندية أخذت تدخل إلى العربية بواسطة ترجمة الفرس لها.
كما يُنسب للمنصور وضع بعض الجداول الفلكية؛ وذلك لأنّه أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم والفلك، وقد اقترن اهتمامه بالتنجيم بنوبخت الفارسي الذي كان منجماً كبيراً.
لم يكتفِ المنصور بما كان عند الفرس من علم الفلك والتنجيم؛ فقد نُقِلت في عهده كتب علم الهيئة والنجوم وحركات الأفلاك والكواكب، ومنها الآتي:
- كتاب السندهند الهندي.
- كتاب المجسطي اليوناني لبطليموس.
إضافةً إلى ذلك، تُرجِم في عهد المنصور علوم أخرى، مثل: كتب أرسططاليس في المنطقيات، وكتاب الأرثماطيقي في الحساب، وكتاب إقليدس في علم الأشكال الهندسية، فجميع هذه الكتب يونانية، وممّن لمع اسمهم في عهد المنصور في ترجمة كتب الطب اليوناني أبي يحيى البطريق؛ إذ اهتم بنقل مجموعة من كتب أبقراط وجالينوس.
عهد هارون الرشيد
نشطت الترجمة في عصر الرشيد نشاطاً واسعاً، وممّا ساهم في ذلك إنشاء دار الحكمة أو خزانة الحكمة، وتوظيف العديد من المترجمين بها وجلب الكتب إليها من بلاد الروم.
كما أشرف على هذا العمل الضخم يوحنا بن ماسويه، وله مؤلفات كثيرة في الطب وتركيب الأدوية، وأسهم أيضاً في الترجمة جبريل بن بختيشوع كبير أطباء الرشيد، وله كتب مختلفة في الطب بالإضافة إلى كتابه المدخل إلى صناعة المنطق.
إنّ للبرامكة فضلاً عظيماً في إذكاء الترجمة؛ فقد شجعوا حركة النقل إلى العربية من اليونانية والفارسية والهندية، وانتهجوا في ذلك سياسة المكافآت المالية المجزية، كما اهتموا بإعادة ترجمة بعض الكتب التي ترجمت قبل عصرهم، بحيث تكون أكثر دقةً وإتقاناً.
عهد المأمون
ازدهرت الترجمة في عهد المأمون ازدهارًا كبيرًا؛ إذ أُسس بيت الحكمة، وقد ألحق المأمون به مرصده الفلكي المشهور وأوكل مهمة الإشراف عليه ليحيى بن أبي منصور، ولم يلبث هذا المرصد إلى أن تحول إلى مدرسة رياضية فلكية كبيرة.
كما أفادت هذه المدرسة من الأبحاث العملية في مجال الفلك الرياضيات والجغرافيا، ووضعت لحركة الأفلاك جداول أكثر دقةً مما كان لدى الأقدمين، واستطاعت أن تقيس درجتين من درجات محيط الأرض على أساسها الكروي.
أثر الترجمة على الفكر والأدب والثقافة في العصر العباسي الأول
كان للترجمة الأثر البالغ في العصر العباسي الأول على العقل العربي؛ حيث نشطت حركة الفلسفة والعلوم، وأُضيفت علوم لأول مرة في تاريخ الحضارة الإنسانية، ومن هذه العلوم ما يأتي:
علم الجبر
يُعد الخوارزمي المؤسس الأول للعلوم الرياضية والفلكية والجغرافية، حيثُ كان من أكبر العلماء الرياضيين والفلكيين الذين قاموا على أبحاث مرصد المأمون، إذ أنشأ عصراً جديداً في التاريخ العالمي للرياضيات، واكتشف علم الجبر وقواعده وأعطاه اسمه الذي شاع في العالم كله من بعده.
علم الكيمياء
يُعتبر جابر بن حيان المؤسس الأول لعلم الصّنعة (الكيمياء)؛ حيث أرسى دعائم هذا العلم على التجربة، وخلَّفَ فيه كثيراً من النظريات في الإكسير وخواصه.
علم الأبحاث الطبية
استطاع يوحنا ابن ماسويه أن يُضيف بعض النتائج الجديدة في علم التشريح، بسبب ما كان يعكف عليه من تشريحٍ للقردة، وهو بذلك أصبح المؤسس الأول للأبحاث الطبية العربية.
علم العَروض
تمكن الخليل بن أحمد الفراهيدي من وضع علم العَروض بسبب ما ترجم من كتب الموسيقى لأوقليدس وغيره، التي كان لها تأثير بعيد في نهضة الغناء والتلحين العربي، كما ألف كتاباً بديعاً في علم الإيقاع اتخذه إسحاق الموصلي منهجًا في كتبه الموسيقية.