الشاعر الأندلسي ابن زيدون
ابن زيدون
ابن زيدون هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزوميّ الأندلسيّ، وهو من أبرز شعراء الأندلس، تنوّع شعره فكتب في الغزل العفيف وفي الرثاء والفخر، ووصف الطبيعة، حيث كان لنشأته في مدينة قرطبة التي اشتهرت بطبيعتها الرائعة دورٌ في إبداعه في هذا المجال، كما امتاز شعر ابن زيدون بطول القصيدة وكثرة الفنون الشعريّة التي اتبعها، فكان من أبرع شعراء عصره.
مولد ابن زيدون
وُلد ابن زيدون في خريف سنة 394هـ (1003م) في حيّ من أحياء قرطبة المتراصّة، وتمتدّ جذوره العربية الأصيلة إلى قبيلة بني مخزوم التي كان لها شأن كبير ومكانة عظيمة في الجاهليّة والإسلام، وقد جاء أجداده من المغرب، كما كان بيت بني زيدون من أكبر بيوت قبيلة مخزوم عزاً وجاهاً وثقافةً وأدباً، وكانت عائلتاه من جهة أبيه ومن جهة أمه تعتبران من أبرز عائلات الأندلس ، وأيضًا كان أبوه رجلاً ثرياً ومن وجهاء الأندلس ومن أهل العلم والمعرفة باللغة والآداب، كما كان فقيهاً وقاضٍ له شأن كبيٌر وصاحب رأي مسموع، فقد كان قاضي القضاة آنذاك أحمد بن محمد بن ذكوان يشاوره ويراجعه في فتاويه وأحكامه، كما كان موضع ثقة لغيره من القضاة، و يقال إنّ (أبا بكر) وهي كنيته قد توفي بالبيرة بالقرب من غرناطة، حيث كان ذاهباً إلى هناك لتفقد أملاكه ودُفن فيها.
كان ابن زيدون في الحادية عشر من عمره عند وفاة والده فكفله جده لأمه، وكان من المشايخ فعُرف عنه الالتزام والحزم، فنشأ ابن زيدون في كنفه ورعايته، كما كان وحيد أبويه وبعد موت والده صار وحيد أمه التي دللته كثيراً، فكان لهذا الدلال إضافة إلى نفسه الحساسة وحبه للمرح الأثر الأكبر في حياته.
نشأة ابن زيدون وطموحاته
نشأ ابن زيدون في أحضان جده ودلال والدته التي كانت تربطه بها علاقة مميزة جداً لا سيما وأنه كان وحيدها، فقد كان لهذه العلاقة الأثر الكبير في تكوين شخصيته النرجسيّة ، فنشأ معجباً بنفسه مغتراً بشبابه ووسامته، حيث كان تأثير والدته عليه أقوى من تأثير جده، وقد كانت هذه الحياة المُترفة التي عاشها ابن زيدون سبباً في انصرافه إلى اللهو والمتعة، لا سيما أنّ العصر الذي عاش فيه كان عصر انفتاحٍ ومجون، فأُغرم ابن زيدون بالفنون والموسيقى والغناء، وكان لكلّ هذه الظروف التي أحاطت بنشأته أثر بالغ في حياته، فقد أصبح شابا معتزاً بثرائه وبحسبه ونسبه اعتزازاً كبيراً، وطموحاً ليس لطموحه حد، وقد كان طموحه هذا سبباً في دخوله السجن فيما بعد.
شيوخ ابن زيدون وأساتذته
كان والد ابن زيدون معلمه الأول، فقد كان ضليعاً في علوم اللغة العربية وآدابها، فعلم ولده منذ صغره وأحضر له الأساتذة الذين علموه مختلف العلوم، وفي هذا يقول دكتور شوقي ضيف: (ونظن ظناً أنّ ابن زيدون لزم صديق أبيه عباس بن ذكوان، وأفاد من علمه وفقهه، فقد كان عالم قرطبة الأول في عصره، وامتدت حياته بعد أبيه إلى سنة 413هـ)، كما تتلمذ ابن زيدون على يدي أبي بكر مسلم بن أحمد وهوابن أفلح النحوي الذي كان عالماً في اللغة والأدب ورواية الشعر، هذا وكان ابن زيدون مقبلاً على العلم راغباً فيه، فأخذ ينهل من العلم من هنا وهناك، فكان يحضر الدروس في الجوامع ويرتاد دور الكتب، ويتردد على جامعة قرطبة الكبيرة ليحضر الدروس التي كانت تُلقى فيها، وكانت قرطبة في ذلك الحين مركزاً للعلم والعلماء، مما ساعد ابن زيدون على الإقبال على العلم والرغبة في تحصيله، هذا ولم يذكر الذين عاصروا ابن زيدون أسماء أساتذة تولوا تعليمه بالترتيب، وفي ذلك يقول وليم الخازن: (ولم يعطنا الذين دنوا حياة الشاعرأسماء أساتذة بالتتابع).
منزلة ابن زيدون
كان ابن زيدون من أبرع وأقدر شعراء العصر الذي عاشوا فيه، لذا أُطلق عليه لقب بحتريّ المغرب تشبيهاً له بالشاعر البحتريّ ؛ وذلك لتميّزه في موهبته وتميز شعره بالسهولة والعذوبة، فقد قال المقرّي مادحاً له: (من لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف)، كما جاء رأي علماء الغرب مثل رأي علماء الشرق في ابن زيدون بشأن منزلتة، فقال آنخل جنثالث بالنثيا: (أهم شعراء قرطبة في ذلك العصر هو أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي)، هذا وقد كان لابن زيدون منزلة مرموقة في قرطبة لما امتاز به من تفوق ونبوغ، وعلم غزير، وقدرة على التعبير عن نفسه ومشاعره وأفكاره.
بيئة ابن زيدون
الحياة السياسيّة
عاصر ابن زيدون الاضطرابات التي حدثت في في الأندلس، وشهد تداعي الخلافة الأموية فيها التي امتد حكمها للأندلس منذ عام 756م حتى عام 1030م، حيث تأسس الحكم على يد عبد الرحمن الداخل وهو ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وبعده توالى على الحكم عدد من الأمراء، فبلغت الدولة الأموية أوج عزها وعظمتها في فترة حكم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد الذي لُقّب بالناصر لدين الله وهو أول من سُمي بأمير المؤمنين، وقد دام حكمه خمسين سنة ثمّ تولى الحكم بعده ولده الذي سار على نهج أبيه إلى حين وفاته 976م، ثمّ توالى على الحكم عدد من الحكام لإمارتها وانتهى حكم الأمويين في الأندلس ليبدأ بعده حكم ملوك الطوائف، وعلى الرغم من حدوث بعض الاضطرابات في تلك الفترة إلا أنّ الأندلس شهدت فيها نشاطاً وازدهاراً في الحركة الفكريّة والأدبيّة فانتشرت المكتبات، واهتم الأندلسيون بكتب المشارقة من ناحية الدراسة والمعارضة، وقد ظهر العديد من العلماء والفلاسفة الذين اشتُهروا بالعلوم التطبيقية، مثل علم الرياضيات الذي برز فيه علماء أمثال الكرماني، وعلم المنطق والطب أمثال ابن جبيرول، والفلسفة وعلم النبات أمثال البطليوسي، وابن باجة، كما أصبحت قصور الأمراء مجالس ونوادٍ أدبية يؤمّها الشعراء والكتاب ليحصلوا على العطايا والهبات.
الحياة الثقافيّة
شهدت الأندلس في عصر ابن زيدون نهضةً حضاريةً وفكريةً في كافة العلوم، كانت عواصم الدول الأندلسية وعواصم المشرق الإسلامي تتنافس فيما بينها في مجال الشعر، وقد أُلّفت في تلك الفترة عدد من الكتب كان ضخماً جداً قياساً بالفترة الزمنية التي أُلّفت فيها، ولعلماء وحكام الأندلس فضل في ذلك، فمن أهم الحكام الذين لعبوا دوراً مهماً في ذلك الازدهار الفكري عبد الرحمن الناصر، والحكم المستنصر والمنصور بن أبي عامر، كما كان أهل الأندلس أنفسهم يرغبون في العلم ويحبون المعرفة، وكان ملوك الطوائف يعملون على استقدام العلماء لتصبح دولهم بمستوى فكري أعلى من مستوى الممالك الأخرى.
الحياة الأدبيّة
كان ابن زيدون من أشهر أدباء وشعراء الأندلس لا سيما في عهد ملوك الطوائف، وكان العرب في تلك الحقبة من الزمن إذا فتحوا بلداً من البلدان لم يكتفوا بفتحه سياسياً بل فتحوه لغوياً وجعلوا اللغة العربية تحل محل لغته الأصلية ، كما علّموا أهله علوم القرآن الكريم، ورغبوا أبناءه بأدبهم وشعرهم حتى أعجبوا به أشد إعجاب، فأصبحت اللغة العربية هي اللغة المسيطرة والرئيسية في الأندلس والأقاليم المجاورة، فصار أهل هذه البلاد يعبرون بها عن مشاعرهم وعواطفهم، ويقلدون نماذجها المشرقيّة، وينقلون الكتب الأدبيّة إلى بلادهم حال ظهورها في البلاد المشرقيّة؛ مثل رسالة التوابع والتدوير للجاحظ، وديوان المتنبي وأبي تمام، ورسائل بديع الزمان ومقاماته، ومقامات الحريري، فقد كانت هذه هي المرحلة الأولى من الأدب في الأندلس، وهي مرحلة انتقال الأدب المشرقي إلى المغرب كما هي دون أي تعديل.
بلغت الحياة الأدبيّة أوج ازدهارها في عهد ملوك الطوائف، فقد كان كلّ ملك يجمع حوله عدداً من الأدباء والشعراء للتفاخر ومنافسة من حوله من الملوك والسلاطين، فظهرت أسواق النثر والشعر وتعددت هذه الأسواق، وصار الكتاب يبتدعون أساليب جديدة لإظهار مواهبهم، فألّف ابن شهيد رسالة التوابع والزوابع وهي رحلة للشاعر في عالم الجن وقد تأثر بالمقامة الإبليسية لأبي بديع الزماني، كما كان الاثنان مصدرا إلهامٍ لأبي العلاء المعري في رسالة الغفران، أما ابن زيدون فكانت له رسالتان جدية وهزلية بعث من سجنه بالأولى لأبي الحزم بن جهور أيام الفتنة يعاتبه ويستعطفه ويدافع عن نفسه مما اتهم فيه، أما الرسالة الثانية فقد بعث بها إلى الوزير عامر بن عبدوس على لسان ولّادة بنت المستكفي يتهكم عليه ويهجوه فهو عدوه الذي ينافسه في حب ولّادة، وقد بالغ ملوك الطوائف في تكريم الشعراء وبذل المكافآت والجوائز لهم مما جعلهم يتنافسون في مدحهم فبرزت مواهبهم وأبدعوا، فنهض الشعر وازدهر إلى أقصى حدٍ ولم يقتصر قول الشعر على فئة الشعراء فحسب بل عمّ حتى طال كافة طبقات المجتمع الأندلسيّ.
علاقة ابن زيدون بالخلفاء
عاش ابن زيدون في عصر ملوك الطوائف الذي ضعُفت فيه قوّة دولة الأندلس وتشتت وتقلصت، فبعد سقوط الدولة الأموية نتيجة ضعفها وانحلالها قامت على أنقاضها دويلات منها قرطبة التي تولى إمارتها أبو الحزم ابن جهور، فكان ابن زيدون من وزرائه المقربين، ثمّ أوقع بينهما الوشاة فتغيرت العلاقة وذهب الودّ فقام ابن جهور بسجنه لكنّه استطاع الفرار من السجن بعد أن مكث فيه سنةً ونصف، ثمّ لجأ إلى ولي عهد ابن جهور، وأدخله بوساطةٍ بينه وبين ابن جهور فعفى عنه، وبعد أن توفي الأمير أبو الحزم سنة 435هـ تولى ابنه أبو الوليد الإمارة فكان ابن زيدون صديقاً مقرباً له فولاه وزارةً لكنه سرعان ما عزله بعد أن أصغى إلى الوشاةِ من أعداء الشاعر ومنافسيه، ثمّ عاد ورضي عنه بعد عدة أعوام لكن ابن زيدون هجر الأمير وانتقل إلى إشبيلية حيث بنو عباد.
بعد وفاة أبو القاسم بن عباد الذي حكم إشبيلية منذ عام (414هـ) حتى عام (433هـ) تولى الحكم ابنه المعتضد بن عباد، وكان شاعراً يحب الشعر، فاجتمع في بلاطه عدد كبير من الشعراء كان ابن زيدون زعيمهم، فأصبح صديقاً للأمير وولاه وزارته، ولما توفي المعتضد سنة 461هـ تولى بعده ابنه المعتمد وكان من أصدقاء ابن زيدون فأبقى عليه في منصبه، واستطاع الأمير فتح قرطبة وقد ساعده ابن زيدون في ذلك بحنكته السياسية، هذا وقد كان لكلّ الأحداث التي حصلت حينها في البيئة التي نشأ فيها ابن زيدون أثر واضح في شعره مما جعله يتربع على عرش زعامة الشعر بلا منافس.
رسائل ابن زيدون
الرسائل الهزليّة
كتب ابن زيدون رسالةً هزليّة وهو في سجنه كما سبق وذكر، نقلتها ولاّدة على لسانها إلى ابن عبدوس الذي كان ينافسه على حبها، وقد جاء في هذه الرسالة هجاءٌ وتشفٍّ وسخط وحقد أظهرت قوة وبأس نفس ابن زيدون الذي تأثر فيها برسالة التربيع والتدوير للجاحظ، وقد شرح هذه الرسالة الأديب ابن نباتة سنة 768هـ في كتاب سماه: (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون).
الرسائل الجديّة
الرسالة الجدية هي رسالة أرسلها ابن زيدون إلى حاكم قرطبة ابن جهور بعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس سنة 422هـ، طالباً الرحمة منه مستعطفاً إيّاه ليطلق صراحه من السجن الذي وضعه فيه ظلماً نتيجة الدسائس والمؤامرات، وقد أجمع القدماء والمعاصرون على أنّ هذه الرسالة تعتبر من أهم الرسائل الأدبية في تاريخ الأدب العربيّ، لذا لاقت الكثير من التقدير والاهتمام قديماً وحديثاً، ومن مظاهر تقدير الأقدمين لها أنّ بعض الأدباء اقتدى بها وقلدها مثل، محمد بن نصر القيسراني الذي استفاد منها من الناحية الشكلية وليس من ناحية المقاصد، في تأليف ظلامة أبي تمام ، كما قلّد هذه الرسالة محي الدين بن ظاهر، وصلاح الدين الصفدي، ومن مظاهر الاهتمام بتلك الرسالة أيضاً قديماً وحديثاً ترجمتها إلى بعض اللغات وكثرة الشارحين لها، هذا ولم تزل تلك الرسالة محطّ اهتمام للدارسين حتى الآن.
شعر ابن زيدون
كتب ابن زيدون الكثير من قصائد المدائح في أبي الحزم بن جهور، وأبي الوليد، وفي المعتضد، وابنه المعتمد، كما مدح بعض أمراء الطوائف، وكتب الرثاء في أبي جهور وفي المعتضد وبعض أبناء الخاصة، ولا يوجد في مدح ابن زيدون ورثائه تجديداً إذ كان يتناول المعاني المتداولة عند القدماء، مثل صفات الكرم والشجاعة والتقوى وجميع المعاني المعروفة عند شعراء المشرق، كما يمتاز شعره بالمبالغة في اللفظ والمعنى مقلداً في ذلك القدامى، أما شعره في الغزل فهو مرتبطٌ بولاّدة التي أحبها وهام في عشقها، وهو من نوع الغزل الصادق الذي ينبع عاطفة وحنيناً، وشكوى وعتاباً وألماً، ويبدو فيه ساخطاً على الوشاة حاقداً على الدهر.
يمتاز شعر ابن زيدون بشكل عام بالمبالغة بهدف التأثير في السامع لتحريك مشاعره، كما يظهر في شعره تأثره بالقديم بالرغم من أنّه عاش في بيئة تختلف عن تلك التي عاش فيها المشارقة، وقد سُمي ابن زيدون كما قلنا ببحتري المغرب لسببين، أولهما طول النفس، فقد جاءت قصائده في المدح والغزل طويلةً، وثانيهما كثرة الزخارف الشعرية والصور البيانية والمحسّنات البديعية، فجاء شعره شبيهاً بشعر البحتري، ورغم تأثر ابن زيدون بالمشارقة إلا أنّه ظلّ محتفظاً بشخصيته المميزة في شعره واهتمامه بإبراز ذاته في أعماله الشعرية.
الأغراض الشعريّة لابن زيدون
كان لابن زيدون في حياته ثلاث تجارب أثرت في تنوّع شعره بشكل عميق، والتي عُدّت مصدراً لإلهام ابن زيدون في كلّ المواضيع التي عبّر عنها، أما التجربة الأولى فقد تمثلت بهيامه لولاّدة بنت المستكفي، وأما الثانية فقد حدثت عند سجنه في عهد أبي الحزم بن جهور، إذ نتجت من معاناته في السجن العديد من الأبيات الشعرية التي كانت تتمحور حول العتاب والاستعطاف، أما التجربة الثالثة فقد حصلت معه حين كان قريبًا من الحكام بصفته وزيراً وسفيراً في الدولة، فمكانة ابن زيدون تلك جعلته ينظم أشعار المديح لأولي الأمر، والهجاء لأعدائه، كما اعتُبرت مصدراً لإخوانياته ومداعباته، ولما كتبه من قصائد الوصف ، وفيما يأتي شرح للأغراض الشعرية لابن زيدون مع ذكر بعض الأمثلة على قصائده:
- الغزل: كان لعشق ابن زيدون لولادة، وحبه الشديد لها وتعلق قلبه وأحاسيسه بها، دور كبير في إشعال نفسه وإكسابها شاعرية خصبة، لذا ترجمت ما في صدره من مكنون الحب والوفاء إلى شعرٍ عذبٍ وإبداعٍ لا حدود له في شعر الغزل، فتنوعت أشعاره ما بين الشكوى والحنين والعتاب والهجر وما إلى ذلك مما تفيض به نفس الشاعر العاشق من مشاعر.
- الشكوى: للشكوى النصيب الأكبر من قصائد الغزل في شعر ابن زيدون، والتي امتازت مثل باقي أشعاره بالسهولة والعذوبة والموسيقى والمشاعر الغزيرة، فيقول في إحداها:
كم ذا أُريدُ وَلاَ أُرادُ؟
- يا سوء ما لقِيَ الفؤادُ
- العتاب: أما العتاب فيحتل المرتبة الثانية في شعر ابن زيدون ويقول في إحدى قصائده:
أيوحشني الزمان وأنت أنسي
- ويظلم لي النهارُ وأنت شمسي
- الحنين والشوق: تفيض قصائد الحنين والشوق في شعر ابن زيدون حباً وحنيناً، ويقول في إحداها:
متى أبثّكِ ما بي
- يا راحتي وعذابي
متى ينوبُ لساني
- في شرحه عن كتابي
- الهجر: إنّ قصائد الهجر في شعر ابن زيدون مرتبطة بحبيبته ولادة، فمعظمها تتحدث عن هجرها له، فيقول في إحداها:
يا نازحًا وضميرُ القلب مثواهُ
- أنسَتْكَ دنياك عبدًا أنت دنياهُ
- الفراق: يقول ابن زيدون في الفراق:
لحا اللهُ يومًا لستُ فيه بملتقِ
- مُحيَّاكَ مِن أجل النَّوى والتَّفرُّقِ
وكيف يطيبُ العيشُ دُون مسرةٍ؟
- وأيُّ سُرورٍ للكئيب المؤرَّق
- الاعتذار: يوجد مقطعة واحدة في الاعتذار في ديوان ابن زيدون يعتذر فيها لحبيبته بسبب ضربه لها فيقول فيها:
إن تكن نالتكِ بالضرب يدي
- وأصابتك بما لم أُرِد
فلقد كُنتُ -لعمري- فاديًا
- لك با لمال وبعض الولد
- الوصال: تناول ابن زيدون لذّة الوصال في مقطعة قال فيها:
سري وجهري أنني هائمُ
- قام بك العذرُ فلا لائمُ
- البكاء: قصيدة (أضحى التنائي) هي من أشهر البكائيات في الشعر العربي ، وهي التي جعلته أشهر شعراء الغزل في عصره، وفيها يذوب أساً وألماً على فراق ولادة وحبل الوصال الذي قُطع بينه وبينها، وقد استهلها بقوله:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
- وناب عن طيب لقيانا تجافينا
- المديح: أبدع ابن زيدون في قصائد المدح التي وجهها إلى ابن جهور وابن عباد وغيرهم من الملوك والأمراء، كقوله:
ونهجك سبل الرُّشدِ في قمع منْ غوى
- وعدْلك في استئصال مَن جار واعتدى
- الإخوانيات: إنّ قصائد الإخوانيات عند ابن زيدون متنوعة المواضيع، فمنها ما هو عتاب ومنها ما هو اعتذار، أو طلب استشفاع أو شكر، ومنها ما هو دعابة، كقوله ممازحاً أبا عبد الله البطليوسي:
أصِخْ لمقالتي.. واسمعْ
- وخذ فيما ترى.. أو دع
وأَقْصِرْ بعدها أو زِدْ
- وطِرْ في إثرها أو قَع
- الرثاء: تعددت قصائد ابن زيدون في الرثاء ، فمنها ما هو رثاءٌ خالص ومنها ما خالطه المديح كقوله:
هو الدهرُ فاصبر للذي أحدث الدهرُ
- فمن شيم الأبرار -في مثلها- الصبرُ
- الحبسيات: تنوعت مواضيع الحبسيات في شعر ابن زيدون كذلك، فمنها الغزل والمديح والحنين، والتي جمعها مع بعضها موضوع أساسي، ألا وهو سجنه ومعاناته فيه ورغبته الملحّة في الخروج منه، وهذه إحدى قصائد السجن التي استهلها بالغزل:
ما جال بعدكِ لحظي في سنا القمر
- إلا ذكرتُك ذِكْر العين بالأثر
- الوصف: إنّ جميع قصائد ابن زيدون احتوت على الوصف ، فهو يصف الحبيبة ويصف حاله معها، ويصف الخمر، ويصف الممدوح، لكن أيضاً توجد له قصائد تختص بالوصف وحده كقوله في وصف نزول المطر على شاطئ النهر:
كأنّا عشيَّ القطر في شاطئ النهر
- وقد زهرت فيه الأزاهر كالزُّهر
- الخمريات: يوجد لابن زيدون ثلاث مقطعات فقط في الخمريات، فقد بدأ حياة القصور في بلاط ابن جهور الذي لم يكن ممن يتعاطون الخمر ، كما أنّ انشغال الشاعر بهمومه الخاصة صرفته عن حياة اللهو والترف خاصةً بعد هجر حبيبته له، فيقول ابن زيدون واصفاً ليلة من ليالي الأنس والبهجة في حدائق إشبيلية وهو يشرب الخمر مع أصحابه:
وليلٍ أَدْمنا فيه شُرْبَ مدامةٍ
- إلى أن بدا للصبح -في الليل- تأشيرُ
وجاءت نجوم الصبح تضربُ في الدُّوجى
- فولت نجومُ الليل والليلُ مقهور
- الحنين إلى الوطن: لم يكتب ابن زيدون في الحنين إلى الوطن سوى أرجوزة واحدة وهو في مدينة بطليوس جاء فيها:
يا دمعُ صُب ما شئت تَصُوبا
ويا فُؤادي آنَ أنْ تذوبا
إذِ الرزايا أصبحت ضروبا
- المطيرات: هو فن ابتكره ابن زيدون وهو نوع من النظم يقوم على الألغاز والأحاجي التي تدور حول أنواع الطيور، ويكون في القصيدة بيت أو بيتين فيهما مفتاح اللغز، حيث يدل كل حرف على طير من الطيور، وعلى الشاعر الآخر أن يرد بقصيدة يذكر فيها البيت المجهول الذي يحتوي على حل اللغز، لكن يبدو أن هذا النوع من الشعر لم يستهوي الشعراء لذا مات بموت ابن زيدون.
ابن زيدون وولاّدة بنت المستكفي
يعود نسب ولّادة ابنة المستكفي إلى بيت أموي عريق، فوالدها هو الخليفة المستكفي بالله الذي أجمع المؤرخون على أنّه كان منغمساً في الملذات ومشهوراً بالبطالة وشرب الخمر، فكان توليه أمر المسلمين في قرطبة نقمة عليهم، وقد تزوج من أمةٍ مسيحيةٍ حبشيةٍ قيل إنّها أم ولاّدة، وعلى الرغم من عظمة أجداد ولاّدة إلا أنها كانت قد اكتسبت بعض صفات والديها.
عشق ابن زيدون في شبابه ولّادة وشغفته حباً أيام خدمته لبني جهور، وتوثقت علاقته بها مدةً من الزمن ونظم في حبها مجموعة من القصائد الرائعة، ثمّ ساءت العلاقة بينهما وهجرته ولادة فنظم قصائد مؤثرةً يستعطفها بها، وكان ينافسه في حبها ابن عبدوس الذي تزوجته فيما بعد، وقد كانت ولّادة سيدة عصرها وكانت أديبةً وشاعرةً واثقة من نفسها لدرجة الغرور، فطرزت بالذهب على ثوبها هذين البيتين:
أنا والله أصلُح للمعال
- وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمكِّنُ عاشقي من َصحنِ خدّي
- وأُعطي قُبلتي من يَشتهيها
أحبت ولادة الوزير ابن زيدون أولاً، ثمّ انصرفت عن حبّه إلى حبّ الوزير أبي عامر ابن عبدوس، وكان يلقّب بالفأر، وفي هذا يقول ابن زيدون:
أكرِم بولاّدةَ علقاً لمعتلقٍ
- لو فرقت بين بيطارٍ وعطارِ
قالوا أبو عامرٍ أضحى يلمُ بها
- قلت الفراشةَ قد تدنو من النارِ
نونيّة ابن زيدون
مناسبة القصيدة
كتب ابن زيدون هذه القصيدة لولاّدة بعد هروبه من السجن وأرسلها إليها يرجوها أن تحفظ الود وتظل على العهد، فتذكر أيام الوصال بينهما وتحسر عليها، وقد استخدم الشاعر في هذه القصيدة ألفاظاً معبرة عن حبه وعاطفته النبيلة، كما اختار الصور البيانية بمهارةٍ لتعبر عن الأحوال النفسية التي عاشها، واستخدم فيها مُحسنات اللفظ والمعنى بكلّ إبداع فجاءت مناسبةً لعواطفه وأحاسيسه.
نظم ابن زيدون نونيته على وزن (بحر الكامل) الذي يعد من أهم البحورالعربية لكثرةِ النظم فيه، والذي يمتاز بجرسٍ واضحٍ ينبعث من هذه الحركات الكثيرة الواضحة، وهو مناسب لقصيدة ابن زيدون التي تحتاج مساحة من الزمن للتعبير عن معانيها، أما القافية فهي مردوفة مطلقة وحرف الروي هو النون، وهو شبيه بروي معلقة ابن كلثوم التي مطلعها:
ألا هبّي بصحنكِ فأصبحينا
- ولا تُبقي خُموَر الأندرينا
هذا ومع اختلاف غرضي القصيدة، فقصيدة عمرو في الفخر والحماسة وقصيدة ابن زيدون في الغزل.
الأسلوب المستخدم في القصيدة
بنى ابن زيدون قصيدته هذه بأسلوب جميلٍ رقيقٍ وهادئ مختومة بحرف النون الذي من مميزاته أنّه يعطي في الوقف نبرة حزنٍ مع جرسٍ مصحوبٍ بالحنين، كما أنّه من الحروف الذلاقة ، وله جرس لطيف ونغم موسيقيٌّ عذب في ترتيب القوافي .
رأي النقاد في القصيدة
تحدث النقاد كثيرًا عن هذه القصيدة، فمنهم من مدحها ومنهم من ذمها، لكن من المؤكد أنّها من أروع قصائد الغزل الوجداني، ومما يطلق عليه السهل الممتنع، حيث لا يصعب لمن سمع الشطر الأول أن يكمل الشطر الثاني، من خلال الجناس والطباق اللذين زادا القصيدة روعة على روعة، إضافةً إلى الألفاظ المتضادة.
ألفاظ القصيدة
استخدم ابن زيدون في قصيدته ألفاظاً ذات جرسٍ رنانٍ هادئ لتعبر بصدق عن موضوعها، ولكنها في نفس الوقت ألفاظ جزيلة متينة، كما أنّ لغتها مثل لغة قصائد الشعراء السابقين، لكنّ كثيراً من النقاد انتقد تكرار ابن زيدون للمعاني مع اختلاف الألفاظ.
هذه بعض الأبيات من هذه القصيدة:
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
- وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أَلّا وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا
- حَينٌ فَقامَ بِنا لِلحَينِ ناعينا
مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ حُزناً
- مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا
وفاة ابن زيدون
بعد أن هرب ابن زيدون من السجن اتصل بوالي إشبيلية المعتضد، فعاش في كنفه، وولاه وزارة وفوض إليه شؤون مملكته، وظل في بلاطه في إشبيلية معززاً مكرماً حتى توفي المعتضد وتولى ابنه المعتمد على الله الحكم، فظل إلى جانبه ومات في أيام حكمه في صدر رجب سنة ثلاث وستين وأربعمئة بمدينة إشبيلية ودفن بها، وقال ابن بشكوال إنّه توفي سنة خمس وأربع مائة، وكانت وفاته بالبيرة وسيق إلى قرطبة ودُفن بها رحمه الله.